الاستقلال المرُّ.. بين رفع الرايات وبناء الذات
الاستقلال المرُّ.. بين رفع الرايات وبناء الذات

هل يكفي أن ننتزع السلطة لنصير دولة؟
في أفريقيا، كما في أماكن أخرى من العالم، كان الاستقلال لحظة خلاص مستحق من الاستعمار، لكنه لم يكن خلاصا من آثاره. فقد ترك المستعمر وراءه بنية اقتصادية مصممة لخدمته، وإدارة مشروطة بولائه، ونخبا منقسمة بين الحلم والواقع.
وكما قال فرانتز فانون «الاستعمار لا يرحل، بل يترك وراءه نظامًا يواصل الهيمنة بأدوات أخرى».
ومن هنا يبدأ السؤال الحقيقي: كيف نبني دولة لا تكون مجرد امتهان للهيمنة، بل تعبيرًا عن إرادة شعبية حرة؟ وكيف ننتقل من لحظة الثورة إلى مشروع دولة؟
من النصر إلى الورطة
لم يمض وقت طويل على إعلان الاستقلال حتى اكتشف القادة الجدد أن النصر السياسي لا يعني امتلاك أدوات الحكم. فالدولة التي ولدت من رحم الثورة خرجت على العالم بلا مؤسسات قادرة، بلا كوادر مؤهلة، بلا بنية تحتية أو اقتصادية أو تعليمية قادرة على الاستمرار. وكأن الاستعمار، وهو ينسحب، ترك وراءه قنبلة زمنية: سلطة بلا أدوات، ودولة بلا قلب إداري ينبض.
في هذا السياق، بدت كلمات فرانتز فانون كأنها صدى لواقع الحال «الاستعمار لا يكتفي بنهب الأرض، بل يعيد تشكيل العقل، ويترك وراءه بنية تخدمه حتى بعد رحيله».
هنا بدأت المأساة: كيف يمكن أن تدار دولة لا تملك من المقومات سوى اسمها وعلمها ونشيدها؟
عودة المستعمر…. من الباب الخلفي
ين اصطدمت الشعارات بالواقع، وجد القادة الجدد أنفسهم أمام مأزق وجودي: لا يملكون أدوات الحكم، ولا يستطيعون الاعتراف بالعجز.
اضطر الكثير منهم إلى الاستعانة بالكوادر التي نشأت في حضن المستعمر، وإلى توقيع اتفاقيات «تعاون» مع أعداء الأمس. عاد المستعمر، لا كجندي، بل كخبير ومستشار وممول، يفرض شروطه من الباب الخلفي.
وكما كتب كوامي نكروما: «الاستعمار الجديد لا يحتاج إلى جيوش، بل إلى اتفاقيات، ومساعدات، ونخب محلية تدير نظام الهيمنة نيابة عنه».
وهكذا بدأ الاستقلال يتآكل لا بفعل المؤامرة فقط بل بفعل هشاشة الذات.
محاولات البديل…. الحلم الأفريقي في مواجهة الهيمنة
في مواجهة هذا المأزق الوجودي، برزت محاولات جادة لصناعة بديل ذاتي، ولعل أجرأها تلك التي قادها الزعيمان كوامي نيكروما (غانا) وأحمد سيكوتوري (غينيا)، اللذان التقيا في كوناكري عام 1958 لإعلان اتحاد الدول الأفريقية المستقلة، في محاولة لتأسيس نواة سياسية واقتصادية قادرة على كسر التبعية.
تم الإعلان عن خطة لعملة موحدة، ومصرف اتحادي، وجنسية مشتركة، مع الحفاظ على استقلال السياسات الدفاعية والخارجية. وفي عام 1961 انضمت دولة مالي إلى هذا المشروع الطموح.
لكن الحلم اصطدم بواقع قاسٍ: غياب التواصل الجغرافي، والاختلافات اللغوية، وامتناع الدول المجاورة عن الانضمام، إضافة إلى ضعف الخبرات، وتداعيات الحرب الباردة كلها عوامل أدت إلى تفكك الاتحاد في 1963.
ومع ذلك، لم تكن هذه التجربة فاشلة بقدر ما كانت كاشفة: لقد أثبتت أن التحرر لا يُبنى فقط على النوايا، بل على البنى، وأن الحلم الأفريقي بحاجة إلى أدوات لا شعارات.
دروس الاستقلال… حين يبدأ العمل الحقيقي
أثبتت التجربة الأفريقية أن الاستقلال السياسي كان ضروريا ولكنه لم يكن كافيا. فالدولة التي خرجت من رحم الثورة، خرجت بلا جلد يحميها، وبلا عظام تحملها. الانتقال من مجتمع إلى دولة حديثة لم يكن مجرد قرار، بل مسار طويل محفوف بالأسئلة.
والأخطر أن الاقتصاد الذي ورثته هذه الدول صمم ليُبقيها في موقع التابع: تُنتج المواد الخام، وتستهلك ما يُصنع في مكان آخر.
وكما كتب سمير أمين: «التحرر لا يعني فقط تغيير من يحكم، بل تغيير نمط الإنتاج، وتحرير الخيال السياسي من قيود التبعية»….
هنا، لا يعود السؤال عن الاستقلال سؤالًا سياسيا فقط، بل سؤالًا فلسفيًا: كيف نُعيد تعريف الدولة؟ وكيف نحررها من بنيتها المصممة للهيمنة؟
سؤال لم يُجب عنه بعد
غاب نكروما وسيكوتوري، ومرت من بعدهما أجيال وزعامات، وتبدلت الشعارات، وتناوبت الأيدي على مقود الدولة، لكن الطريق ظل معتمًا. جربت أفريقيا كل شيء تقريبا، إلا أن تبني ذاتها من الداخل.
بقي السؤال معلقًا في الذاكرة الجماعية، كجرح لا يندمل:
هل نلنا الاستقلال فعلًا؟ أم أننا ما زلنا نبحث عن أنفسنا بين أنقاض دولة لم تولد بعد؟
«ربما لا يكون الاستقلال لحظة نحتفل بها، بل سؤالًا نطرحه في كل جيل، على أمل أن نجيب يومًا… بالفعل لا بالذكرى».
أخيرًا، في هذا النص، لم نبحث عن إجابات جاهزة، بل عن ملامح سؤال يسكن الذاكرة الجماعية، عن دولة لم تولد بعد، وعن شعوب تحاول أن تبني ذاتها من الداخل، بعيدا عن ظلال المستعمر، وبعيدا عن شعارات لا تغني ولا تسمن من جوع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فرانز فانون: فيلسوف وطبيب نفسي وثوري من مواليد «المارتينيك»، اشتهر بكتاباته المناهضة للاستعمار. وشارك في الثورة الجزائرية.
أثرت كتاباته – خصوصا المعذبون في الأرض – تأثيرًا عميقًا على حركات التحرر في أفريقيا والعالم، ولا يزال فكره مصدر إلهام لدراسات ما بعد الاستعمار والنضالات ضد العنصرية والاضطهاد.
** كوامي نكروما: أحد أبرز الرموز في تاريخ أفريقيا الحديث ومن رواد حركة الوحدة الأفريقية، قاد حركة الاستقلال عن بريطانيا حتى نجحت عام 1957، لتصبح غانا أول دولة في أفريقيا جنوب الصحراء تحصل على الاستقلال. أطيح به بانقلاب عسكري عام 1966 بينما كان في زيارة خارجية، وتوفي في المنفى برومانيا عام 1972.
*** سمير أمين: اقتصادي ومفكر ماركسي مصري فرنسيً، وأحد أبرز منظري «التطور اللامتكافئ» و«المركز والأطراف». اشتهر بنقده اللاذع للرأسمالية العالمية، موضحًا كيف تستنزف الدول المتقدمة (المركز) موارد الدول النامية (الأطراف) وتُبقيها في حالة تبعية.
