ضرورة الديمقراطية

منذ أن حدث تفاعل (كي لا أقول صدام) المنطقة العربية مع الغرب، طُرحت قضية «الأصالة والمعاصرة».. المعاصرة للغرب والأصالة لنا، وهذا اعتراف ضمني بأن الغرب متفوق علينا بمعاصرته المؤثرة علينا، التي لا مفر من التعامل معها. والمسألة تتلخص في: ما هي العناصر التي ينبغي أن نأخذها من المعاصرة دون المساس بأصالتنا؟
هذا التساؤل يضمر شعورا بأن المعاصرة مهددة لأصالتنا، ويضمر أيضا أن الأصالة «جوهر» معطى وثابت، في حين أن الواقع ليس كذلك، فالأصالات تتطور وتتغير وتتبدل. فأصالة أوروبا، مثلا، بعد دخول المسيحية إليها ليست هي أصالتها قبلها، وأصالة شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام ليست هي أصالتها بعد الإسلام. بالتأكيد تمكنت، في الحالتين، عناصر من الأصالتين السابقتين من التكيف مع الوضع الجديد والاستمرار في العيش، لكن المظهر العام تغير تماما.
الحديث عن الأصالة يستدعي مرادفا آخر لها، وهو «الخصوصية». بيد أن هذا اللفظ يستخدم غالبا في مواجهة الدعوة إلى الديمقراطية، ومستتبعاتها من حرية العقيدة وحرية الرأي والتعبير، ومجمل حقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية، والتعددية وتداول السلطة بناء على ما تقرره صناديق الانتخابات. فدعاة الخصوصية يقولون إن لنا خصوصيتنا التي لا تتناسب مع مقتضيات النظام الديمقراطي، وإنه من حقنا بناء نظام حكم يوافق هذه الخصوصية.
في مقاله «الفوضى الخلاقة»* يقول أحمد زاهر: «جاءت الدولة الوطنية كنسخة مستوردة من الغرب، قائمة على فكرة المواطن الفرد والقانون الوضعي والبيروقراطية المركزية. هكذا تشكّلت فجوة عميقة بين بنية اجتماعية تقوم على التضامن العصبوي والولاء الجمعي، وبين دولة بلا جذور محلية ولا عقد اجتماعي حقيقي».
ويمضي إلى القول: «تحوّل المجتمع إلى كتلة بشرية لا تشعر بالانتماء إلى مؤسساتها، وصارت الدولة تنظر إليه كتهديد دائم لوجودها. ومن رحم هذه المفارقة وُلدت الأنظمة التي تخاف شعوبها أكثر مما تخاف خصومها، فأنشأت أجهزة أمنية تحمي النظام من الداخل بدل أن تحمي الوطن من الخارج، وربطت بقاءها بشرعية القوة الأجنبية لا بشرعية الناس»
هذا طرح صائب. لكن: ما الحل؟ يقول: «لقد آن الأوان لوضع فلسفتنا الخاصة في بناء كياناتنا، فلسفة تنبع من تاريخنا وتجاربنا ومجتمعاتنا، لا من قوالب مفروضة من الخارج. فقط حين نصوغ مشروعًا وطنيًا بمرجعيتنا نحن، نستطيع أن نحول الدولة من قناعٍ للهيمنة إلى إطارٍ جامع للانتماء، ومن سلطةٍ غريبة إلى عقدٍ اجتماعي يعكس إرادة الناس، ويعيد إلى الوطن معناه الحقيقي». لكن السؤال الكبير والمعضل هو: ما هي سمات مرجعيتنا نحن؟!
إن تاريخنا، قبل الدولة الوطنية وبعدها هو تاريخ قمع ومصادرة الحريات، الفردية والعامة. لذا أنا أرى أنه لا بدَّ من النظام الديمقراطي الغربي. لقد أثبت الواقع أن النظام الديمقراطي الغربي، على الرغم من كل ما يمكن أن يوجه إليه من مثالب، هو أصلح أنظمة الحكم كلها، لأنه يوفر، على الأقل، قدرا من الرقابة الشعبية، وهو قادر على إصلاح ما يعتريه من خلل وتجاوز أزماته.
* https://alwasat.ly/news/opinions/495632?author=1
