هل الخلاص يُنتظر أم يُصنع؟!

سؤال كهذا لا يُطرح إلا حين تبلغ الشعوب درجة من الإنهاك والخذلان، حين تُدرك أن الانتظار عبث، وأن من عوّلت عليهم يومًا لإنقاذها هم أنفسهم من ساهموا في مفاقمة أزمتها. إن القول «هل علينا أن ننتظر الحلول من مجتمع دولي منقسم على نفسه ويتجه نحو الغنيمة والاستحواذ؟» ليس مجرد استنكارٍ سياسي، بل هو تعبير عن أزمة وعي أعمق، عن شعورٍ متراكم بأن العالم الذي يُفترض أن يكون مظلة العدالة قد تحوّل إلى سوقٍ مفتوح للمصالح، وأن ما يُسمى بالمجتمع الدولي لم يعد يجسد الضمير الإنساني، بل توازن القوى وموازين الربح والخسارة.
لقد صار واضحًا أن ليبيا، منذ سقوط النظام السابق، لم تكن ساحة لبناء الديمقراطية كما رُوّج، بل مسرحًا تتقاطع فيه مشاريع الخارج وتتصادم داخله أجندات الداخل. فكل مرحلة من مراحل الصراع الليبي كانت تُدار تحت عنوان «المبادرة الدولية»، لكن النتيجة كانت واحدة: مزيدا من الانقسام، ومزيدا من التدخل، ومزيدا من ضياع القرار الوطني. وكلما اجتمع مجلس الأمن أو عقدت عواصم العالم مؤتمرًا حول ليبيا، كان الليبيون يعودون إلى واقع أكثر التباسًا من ذي قبل، لأن القوى الدولية نفسها لا تملك إرادة واحدة ولا رؤية مشتركة، بل مصالح متباينة تفرضها جغرافيا الأطماع.
إن من يقرأ المشهد الدولي اليوم يدرك أن الحديث عن «المجتمع الدولي» بوصفه كيانًا متماسكًا لم يعد سوى وهم لغوي. فالعالم الذي يعيش حروبًا باردة جديدة بين الشرق والغرب، ويتنازع النفوذ في إفريقيا والشرق الأوسط، لا يمكن أن يمنح ليبيا ما عجز عن منحه لنفسه من الاستقرار والتوازن.
الولايات المتحدة غارقة في حسابات انتخابية ومصالح استراتيجية، وروسيا تبحث عن موطئ قدم في الجنوب الليبي لتثبيت حضورها في المتوسط وإفريقيا، وتركيا ترى في ليبيا امتدادًا لنفوذها الاقتصادي والعسكري في البحر المتوسط، وفرنسا وإيطاليا تتصارعان على النفط والموانئ، بينما الاتحاد الأوروبي ينظر إلى ليبيا بعين الهواجس الأمنية ومخاوف الهجرة أكثر مما ينظر إليها كدولة لها حق السيادة والتنمية. فكيف يُعقل أن يُنتظر من هؤلاء أن يقدموا حلًا بريئًا ونزيهًا؟
إن ما يدور على الأرض لا يعكس حرصًا على استقرار ليبيا، بقدر ما يعكس رغبة في ضمان موطئ نفوذ دائم. فكل تدخل أجنبي يحمل في طيّاته بذور تناقض جديد، وكل مبادرة تُطرح تحمل بين سطورها توازنًا بين مصالح القوى المتنافسة أكثر مما تحمل حلًا لمأساة الليبيين. ولهذا، فإن الإيمان بقدرة المجتمع الدولي على إنقاذ ليبيا هو تكرار لسذاجة لم تعد مقبولة بعد عقد ونصف من التجربة المريرة. لقد جرّب الليبيون وصايات الخارج، ووعود المؤتمرات، وبيانات الدعم، ولكن النتيجة كانت دومًا إعادة تدوير الأزمة في أشكال مختلفة.
وما يزيد المشهد تعقيدًا أن النخبة الليبية، أو من يفترض أنها تمثل الدولة والمجتمع، شاركت في تحويل التدخل الخارجي إلى أداة سياسية داخلية. فبدلًا من أن يكون الموقف الوطني الموحد هو بوصلتهم، أصبح كل طرف يبحث عن داعم خارجي يضمن له الغلبة في الداخل، حتى باتت السيادة ورقة تفاوض وليست مبدأ مقدسًا. وهكذا، حين انقسمت القوى الدولية، انعكس الانقسام مباشرة على الأرض الليبية، فتحولت البلاد إلى فسيفساء من الولاءات العابرة للوطن. كل فصيل يستمد شرعيته من قوة خارجية، وكل منطقة تُدار وفق ميزان قوى لا وفق مبدأ المصلحة العامة.
إن جوهر المأساة الليبية اليوم لا يكمن فقط في الانقسام السياسي أو الاقتصادي، بل في تآكل الثقة بين الداخل والخارج، وبين المواطن ومؤسساته، وبين الفاعلين أنفسهم. حين يفقد الناس الثقة في العالم من حولهم، وفي الوقت ذاته يعجزون عن الثقة ببعضهم، يصبح الحل مستحيلًا. وهنا تبرز خطورة الاعتماد على الخارج: إنه يُضعف الحس بالمسؤولية الوطنية، ويجعل كل أزمة داخلية فرصة للتدخل الأجنبي، وكل تفاهم داخلي هشًا لأنه لا يقوم على الإرادة الحرة بل على التوازنات المفروضة من الخارج.
وإذا تأملنا تاريخ الشعوب التي خرجت من أزماتها الكبرى، سنجد أن الحلول الحقيقية لم تأتِ أبدًا من الخارج، بل من الداخل حين نضج الوعي الجماعي واشتد الإحساس بالمسؤولية. أوروبا التي مزقتها الحروب لم توحّدها الأمم المتحدة، بل إرادة الأوروبيين بعد أن أدركوا عبث الصراع. ورواندا التي كانت غارقة في دمائها لم تنقذها لجان التحقيق الدولية، بل مصالحة داخلية شجاعة تجاوزت الماضي. كذلك ليبيا، لن تخرج من أزمتها إلا حين تدرك أن خلاصها لا يمكن أن يكون هدية من الخارج، بل ثمرة قرار وطني جامع.
المجتمع الدولي لن يمنح لليبيين ما لم يمنحوه لأنفسهم، ولن يبني لهم دولة ما داموا لم يبنوا الثقة بينهم أولًا. فمن غير المنطقي أن يُطالب الخارج بتوحيد المؤسسات الليبية في حين أن هذه المؤسسات نفسها تستمد قوتها من الخارج. ومن العبث انتظار عدالة دولية في وقتٍ لم تتوافر فيه عدالة داخلية تعيد للمواطن ثقته في القانون والإنصاف.
إن البداية الحقيقية لأي حل تكمن في عودة الوعي إلى الداخل، في أن يدرك الليبيون أن كل تأجيل لتفاهمهم هو تمديد لعمر وصايات الآخرين.
لقد آن الأوان أن يتوقف الليبيون عن التفرج على العالم وهو يتحدث باسمهم، وأن يعيدوا صياغة المشهد بأيديهم. العالم لا يحترم إلا من يملك إرادته، والمجتمع الدولي لا يتعامل بندية إلا مع من يعرف ما يريد. أما من ينتظر الحلول الجاهزة فسيبقى يدور في فلك الأزمات التي يصنعها غيره. لا أحد سيفهم ليبيا كما يفهمها الليبيون، ولا أحد سيبكي على مستقبلها أكثر من أبنائها، ولكن هذا الوعي يجب أن يتحول من شعور إلى فعل، من كلمات إلى مواقف، من اتهام للخارج إلى مساءلة للذات.
قد يكون العالم منقسمًا، وقد تتنازع القوى مصالحها على حساب ليبيا، لكن الانقسام الحقيقي والأخطر هو انقسام الداخل على نفسه، لأن الخارج لا يتسلل إلا من ثغرات الضعف الداخلي. وما لم يغلق الليبيون تلك الثغرات، فسيبقى الخارج فاعلًا رئيسيًا في تقرير مصيرهم. إن بناء دولة لا يبدأ من التوافقات الشكلية ولا من توقيع اتفاقات لا تصمد أسبوعًا، بل من تأسيس ثقافة وطنية ترى في ليبيا وطنًا مشتركًا لا غنيمة يتقاسمها المنتصرون.
ليس المجتمع الدولي هو العدو بالضرورة، لكنه ليس المنقذ أيضًا. هو كيان براغماتي يتعامل بلغة المصالح لا القيم، ولا يمكن أن نلومه على ذلك ما لم نكن نحن مستعدين لفرض مصالحنا بلغة القوة والوحدة. والليبيون قادرون على ذلك متى أدركوا أن ما يجمعهم أكبر مما يفرقهم، وأن الخلاف السياسي لا يبرر التفريط في السيادة، وأن الخروج من الأزمة لا يمر عبر عواصم العالم، بل عبر مصالحة وطنية صادقة تُعيد تعريف معنى الوطن.
وعندها فقط، حين يستعيد الليبيون زمام المبادرة ويكفّون عن انتظار الحلول من الخارج، سيتحوّل السؤال من علامة استفهام إلى إعلان موقف، ومن نغمة شكوى إلى صوت وعي. فالوطن لا يُبنى بالانتظار، بل بالفعل. والمجتمع الدولي، مهما بدا قويًا، لن يستطيع أن يفرض على الليبيين مصيرًا لا يختارونه هم بأنفسهم. إن اللحظة الليبية الراهنة تتطلب شجاعة فكرية قبل أن تتطلب حلولًا سياسية، لأن أول خطوة نحو الخلاص هي أن ندرك من ننتظر، ولماذا ننتظر، ومتى نقرر أن ننتظر أنفسنا فقط.
