رحلة إلى الجزائر (2)

سالم الكبتي

.. وها أنا في يوم آخر جديد في ساحة الأمير عبد القادر. يتوسطها عاليا. إنه في الوسط تماما. يبدو شامخا على صهوة جواده ممسكا بسيفه. وفي الساحة يقابلني مجلس الأمة. ومكتبة العالم الثالث. جولة ممتعة خلالها. كتب وإصدارات أغلبها بالفرنسية. ثمة العديد من العناوين المهمة حول تاريخ الجزائر. الثورة وجبهة التحرير والاستقلال. مذكرات القادة. شهادة الشهود. المختص استقبال منه جميل يمتلئ بشاشة وودا. وقارئ يرتاد المكتبة مثلي. يعرف أنني قادم من ليبيا. يدعوني إلى فنجان قهوة وحديث.
المقهى قريبة من المكتبة. ثم أودعه وأشكره.

أترك الساحة خلفي والأمير يبقى شامخا يتوسطها. أدخل شارع العربي بن مهيدي. الشهيد الثائر. غدر به الفرنسيون في زنزانته وأعدموه. بطل من أبطال الثورة منذ بداياتها. أردد مرثية عبدالوهاب البياتي في حقه العام 1957 الذي شهد تلك المأساة:
(كان في نافذة السجن مع العصفور يحلم
كان مثلي يتألم
كان سرا مغلقا لا يتكلم
كان يعلم:
أنه لابد هالك
وستبقى بعده الشمس هنالك
في ليالي بعثها.. شمس الجزائر
تلد الثائر في أعقاب ثائر).

وعند الزاوية.. بداية الشارع يقع ميلك بار. كان محلا في الوقت ذاته لبيع الآيس كريم. يرتاده الفرنسيون. بن مهيدي يكلف زھرة ظريف من ثائرات الجبهة.
عملية فدائية تقوم بها مثل كل العمليات المشابهة التي نفذتها الكثيرات من حرائر الجزائر. تفجير وقتلى. كانوا ينعمون بالآيس كريم فيما الجزائريون يغرقون في الدماء. صار اسمها زهرة بيطاط. تزوجت من رفيقها المناضل رابح بيطاط أحد الزعماء المشهورين في تاريخ نضال الجزائر. كان العمل الذي هز العاصمة ذات عشية يوم 30 سبتمبر 1956. ظل الفرنسيون كل يوم على قلق لا يهدأ كأن النيران تحتهم بلا توقف.

التاريخ يسير على طول الشوارع والميادين الممتدة هنا وهناك.. يصحو ويعلو ويحكي ويسير. البحر خلف المباني. المقاهي. الحركة الدؤوبة والحكايات. شاي والمزيد من التاريخ والحكايا. والبشر في نشاط وهمة. أمامي البريد المركزي. وميدان خمستي. إنه من شباب الثورة ونشطائها في اتحاد طلبتها في الخارج أيام الخمسينيات. عينته الثورة أول وزير للخارجية بعد الاستقلال في يوليو 1962. ثم اغتيل في مايو 1963 أمام الجمعية الوطنية. مبناها قريب من مشاويري. كان يومها عبد الناصر في زيارة للجزائر. وصلها بحرا. استقبال جارف له. شارك في الجنازة مع ثوار الجزائر والمواطنين. بعده عين بن بلة وزيرا للخارجية لفترة قصيرة ثم طال المنصب عبدالعزيز بوتفليقة. دبلوماسية الجزائر تنطلق في كل الاتجاهات عبر محيطها المحلي العربي والأفريقي والدولي.
ثم في بداية شارع عبد الكريم الخطابي تاريخ آخر. مطعم كوك هاردي. تفجير شهده مطلع العام 1957. إقلاقا لراحة المستوطنين على حساب الجزائريين. قتلى وجرحى. نفذت العملية الفدائية جميلة بوعزة. واحدة من جميلات الجزائر الشهيرات.. جميلة بوباشا وجميلة بوحيرد.. وغيرهن.

المترو الجميل ينقلني إلى محطة حديقة التجارب. الزهور والأشجار النادرة والحيوانات. أهبط. ويبدو في أعلى التلة مقام الشهيد. ينتصب على هيئة سعفات النخيل. والنخيل فسيفساء الجزائر في صحرائها وواحاتها. أنجز العام 1982 تخليدا للثورة. المدينة تلوح تحت التلة المرتفعة. وصلنا المقام بالمصعد الكهربائي. يصعد الجبل. سواح وطلبة وزوار. كان هناك مجموعة من السودان. أحاديث التاريخ. وأعلى المقامات مراتب الشهداء الرجال من أجل أوطانهم وقضاياهم العادلة.

الشهادة لا يفوقها فعل آخر. وداخل المقام متحف ضخم يحتاج إلى ساعات للتأمل والمشاهدة. تاريخ ينطق بما فيه. تنهض الموجودات التاريخية بالواجب.. تتكفل باستدعاء التاريخ.. منذ القدم. العثمانيون. حسين داي. الأمير عبدالقادر. الاحتلال الفرنسي. العلماء والمجاهدون والنضال. المذابح والمقاصل التي تحز الرؤوس. فكر فرنسا وتراثها. وعذابات الجزائريين.

ثم 1954. الثورة. جبهة التحرير. نقطة فاصلة مؤثرة تنطلق في الجبال والمدن والقرى. في الجزائر كلها. تخترق الحدود. يسمع العالم الصوت الجديد. صوت الثورة.. صوت الجزائر. يتعاطف معها ويؤازرها الأحرار في كل بقعة. سارتر قال عارنا في الجزائر. وضعه في كتاب. المثقفون شعروا بالعار حقا. تجاوب العالم مع القضية التي هزت الأركان وحركت الأطراف دفعة واحدة.

الجولة مع التاريخ فيها بهجة وتدبر وتفكر. وحياة تعاد. تلك قصص البطولات. الأسلحة والذخائر والمعدات والألبسة والبيانات ومحاضر الاجتماعات والأدوات الطبية ومخلفات الثوار الشخصية وصور التعذيب والعسف في السجون والأسلاك الشائكة. بومدين.. محمد بوخروبة.. تلك عباءته.. بذلاته. مخطوطات بيده لشعر وقصائد. صور. وسلاحه الشخصي. بدلة زرقاء مميزة ارتداها يوم 19 يونيو 1965 عندما قاد حركته مع الرفاق ضد الرفيق القديم بن بلة. محافظ سيجاره الكوبي الشهير. صور مجموعة 22 الذين بدأوا العمل الثوري. صور رؤساء الجزائر والحكومات المؤقتة قبل الاستقلال. مآسي الجيش السري الفرنسي. تراث بن باديس.. كرسيه ونطعه وعباءته ومصحفه وأذكاره. والبشير الإبراهيمي.. وصحفه ونضاله في القاهرة. جمعية العلماء المسلمين ورجالها.

وصورة محمد بوراس. أحد الأبطال. مؤسس الكشافة الإسلامية الجزائرية. كانت ركنا من أركان حركة النضال ضد فرنسا. ولد العام 1907. في العام الذي أسس فيه بادن باول الحركة الكشفية العالمية. نهض بوراس بتأسيس الكشفية الجزائرية العام 1932. كان أفرادها ينتمون لبعض الفرق الفرنسية الكشفية. رفضوا ذلك. لم ترق لهم. كانت تتغنى بفرنسا. انفصلوا وشكلوا بقيادته الكشفية الوطنية. ظلت تساهم في فعل الجهاد ومساندة ثورة التحرير. في العام 1941 أعدمته فرنسا.

القصص تنهض في المقام وتلاحقني خارجه. بعض الحزن وأفقد في هذا التاريخ الهائل بمرارة.. صور الدعم والمساندة العربية للثورة في تلك الأعوام. كانت مساندة الشعوب والسلطات أيضا. لم يكن هناك ذكر لهذه المواقف.. ليبيا ومصر وتونس وكل دنيا العروبة. ثمة لوحة باهتة تضم عددا لصحيفة لبنانية العام 1958. فيها ذكر لمساندة الصليب الأحمر اللبناني للجزائر. أشعر بالمرارة. اختصر المقام العون العربي الهائل والضخم في هذه الورقة. لعل ما حدث يتم تداركه مستقبلا. ذلك يعطي للثورة ونضالها مصداقيتها وأبعادها التحررية وتأثيرها في كل الساحات. وأنزل إلى أسفل التلة. أمامي المكتبة الوطنية الجزائرية. أزورها. أجلس مع مديرها. ترحاب واستقبال. يعتز بدور ليبيا في كفاح الجزائر ومساندته. المكتبة مفتوحة للباحثين في الداخل والخارج. طلاب ومهتمون. باحث من تلمسان جلسة جمعتني به وحديث عن الثقافة وتاريخ الجزائر وليبيا.

أهديت المكتبة بعض مؤلفاتي. عدت إلى أكبر شوارع الجزائر العاصمة.. الذي يقع في قلبها. حيث أقيم في فندق أودان.. شارع مراد ديدوش. شهد كل الأحداث المهمة وعروض الاحتفالات وبهجتها بـأعياد الثورة والاستقلال.
وأنا من تاريخ إلى تاريخ. من المقام إلى ديدوش.
.. ومن شارع ديدوش يتواصل الغدو والرواح. الوجوه. المقاهي. أجلس على أحد المقاعد. الزحام والحركة. تاي جزائري بالنعناع وحكايات. أتكئ على حائط جامعة الجزائر. مباشرة ترجع الذاكرة مرة أخرى إلى الحريق والدمار الهائلين.

منظمة الجيش السري. أتلفت عمران الجامعة ومكتبتها. غير أن الجزائر المستقلة أعادت في أشهر قليلة البناء والترميم. مع الحرية ينهض العمار من جديد. واصلت الجامعة رسالتها الوطنية والعلمية بعد ستة أشهر من الحريق. توهجت في ديسمبر 1962 بطلبتها وطالباتها وأساتذتها وثمة من قدم للتدريس من مصر وسورية.
ديدوش الشارع الطويل. عن اليمين وعن اليسار تتوازى الحركة الدؤوبة والنشاط منذ تنفس الصبح. الشمس العفية تخرق الحجب. الضحى والظهيرة. بعض الحرارة وثمة رطوبة بعض الأحيان. الجزائر على البحر. لكن النسائم تغيب وتغادر مع سخونة الطقس.
هذا يوم جديد. المترو يأخذني إلى ساحة الشهداء. تتسع ولا تضيق وأمامها البحر يلامس الساحة. هنا ارتكب الفرنسيون المذابح القاتلة. ضحايا الأبرياء من الأهالي رجالا ونساء. تخليدا لهذه المآسي صار اسمها بعد الاستقلال ساحة الشهداء. الحمام في الساحة يتألف معها. يطير ويحط. حبات القمح تبرق تحت وهج الشمس.

أين أتجه؟
خيارات. اتساعات وأبعاد وتاريخ. أماكن ينبغي أن تزار.. أن يلمسها المرء ويصافحها بقلبه وعينيه. هنا القصبة العريقة العتيقة. هل هذه هي القصبة؟
نعم أيها التاريخ. إنها رمز كبير لعناوين لا تنتهي وبالخاطر أعود إلى الوراء بعيدا.. بعيدا إلى سنوات من العمر مضت. سنوات نضال الجزائر ونحن هناك في بنغازي وفي ليبيا كلها نسمع إلى صوت الجزائر في الإذاعة الليبية. ننصت إلى الأخبار وأهازيج الحماس للنضال. ونرنو إلى مكتب جبهة التحرير الجزائرية يعلوها العلم المقدس. المكتب فوق مقهى دمشق. شارع عمرو بن العاص. مكتب صغير في مبنى صغير كذلك. تطل حجراته على شارعين. هناك أحمد بوده المناضل القديم وعبد الرحمن الشريف والكثير. وبنغازي تلك الأيام مثل كل مدن ليبيا وقراها كأنها القصبة أو الأوراس أو الجزائر بأكملها. بنغازي أيامها تعطي قيمة للنضال والتعاطف مع القضية. الأسلحة والمساندة تمر من هنا. المخازن. التشوين. الرجال والنساء والزغاريد والتبرعات. والمباريات والسهرات الفنية والمزادات العلنية لصالح الجزائر. علم الجزائر وصور أبطالها. طلبة من الجزائر في كلية الآداب وفي مدرسة التجارة والصناعة وفي مدرسة الأبيار الداخلية.. وغيرها. الزعماء الخمسة في معتقلهم بفرنسا وجميلة.. وآخرون وأخريات. وأيام البطولات التي ولت. والأهازيج تصدح. الشعراء يكتبون. الأغاني في البيوت. وسينما برنيتشي تشهد المهرجانات والأماسي ولجان نصرة الجزائر لا تتوقف. والحماس يغلي بلا توقف.

صور المساندة لا تغيب عن الذاكرة. شيء له قيمة لا تتصل بها الأجيال المعاصرة. مثلا مواقف الدولة والشعب في كل مكان. مثلا الحاج عبد الحفيظ شمسه يمنح مزرعته في بوعطني طواعية لجبهة التحرير. لم يرها أو يدخلها إلى أن تحقق استقلال الجزائر. صارت مكانا للثوار. التدريب والتخزين والاجتماعات. قادة مروا بها وانطلقوا منها. كانت قاعدة خلفية مهمة. هل تذكر أيها الجيل هذه وغيرها. هل تعرف قيمة التاريخ. هل تعرف قيمة القيم والمثل التي غابت وضاعت وطمست!!؟

قهوة جزائرية في مقهى عتيق. حكايات الرجال في الصباح ورفيقي من سكان القصبة الحي العتيق.. عبد القادر. نصعد معا نحو التاريخ. نلج الدروب. نرتفع عبر حكايات التاريخ.