عن «الحُولِي ورقه»

جمعة بوكليب

«من أيام بوتوته» تعبير شعبي كنت أسمعه صغيرًا يردد من حولي دلالة على زمن مضى وتولى. وما زلت لا أعرف من هو «بوتوته» المقصود.
وقتذاك، كنت صبيًا مسموحًا لي بحضور تجمعات النسوة في الأعراس وغيرها من المناسبات الاجتماعية. وكنتُ أسمع وأشاهد النسوة، في كل عرس تقريبًا، يغنّين أهزوجة يقول مطلعها: «الحُولي ورقة أهو جي الصَنّه ترقى أهُو جي».

كانت أهزوجة مشهورة. كن يغنينها ببهجة استثنائية وبتصفيق مدوٍ ورقص. ولم أكن أعرف لصغر سنّي ما هو، أو مَنْ هو «الحُولي ورقه» الذي تؤكد الأهزوجة على مجيئه، أو لماذا يحظى لدى النسوة بتلك المكانة؟

تجدر الإشارة إلى أن ذلك اللحن الشعبي المشهور اقتبسه الصديق الفنان الملحن المرحوم عبد المجيد حقيق في واحدة من أشهر أغنياته.
في اللهجة الطرابلسية، يطلق اسم «الحُولي» على رداء المرأة وجَرد الرجل الصيفي فيقال عن رداء المرأة: «حُولي الحرير أو حُولي اللانه (الصوف) أو حُولي الضامه»، وفي الوقت ذاته يطلق على جَرد الرجل الصيفي الخفيف تمييزًا له عن الجَرد الشتائي الثقيل المسمى (الجرد أو العبي).

في الآونة الأخيرة، وجدتني أردد تلك الأهزوجة القديمة بيني وبين نفسي. وأوحت لي بفكرة كتابة مقالة عن «الحُولي ورقه». ولغياب المعلومات اللازمة، لجأت إلى الاستعانة بصديقة/ كاتبة وباحثة في الموروث الشعبي. غير أني، على ما يبدو، تعجّلت في أمري، وبحسن نيّة طرقت على بابها بالسؤال في الوقت الخطأ.

لو كانت أمي (رحمها الله) على قيد الحياة لما كنتُ احتجت إلى إزعاج صديقتي، ولكنت حصلت على ما أريد من معلومات وبأكثر التفاصيل. لكن «ذهاب الشيرة» وسوء الحظ قاداني إلى طرق باب الصديقة في وقت خطأ.

ونظرًا لأني في حاجة إلى تلك المعلومة، حاولت قدر جهدي توضيح الأمر لصديقتي معتمدًا على رصيد قديم من الود، وعلى كثير من الثقة المتنامية والمتبادلة بيننا عبر الوقت. ويبدو أنها أخيرًا تفهّمت موقفي، وردت مشكورة عليَّ برسالة نصّية مفادها أنها شخصيًا لا تعرف الإجابة، ولذلك أحالت سؤالي إلى من يعرف، وستوافيني بالإجابة متى وصلتها.

استنادًا إلى إدراج منشور على الإنترنت- وموقّع باسم شخص لا أعرفه شخصيًا- وهو مختار الطاهر الغول فإن: «حولي الورقه من أروع وأبدع وأجمل ما نسجه أمازيغ الجبل وخاصة نالوت. وحولى الورقة والجَرد له عمق تاريخي يمتد لآلاف السنين. وقد قلّده ولبسه خلق كثير من الأمم الأخرى. والحُولى الجبالي من ورائه قصة حبّ عاطفية رومانسية وعلامة السكينة الزوجية. وهذه بداية تاريخه ورحلته. والشباب الليبي وكثير من الكهول يجهلون حُولى الورقة كما يجهلون لبسه، ويخلطون بينه وبين الجَرد والعبى البُنّى……وقد قلّد أهلُ مدينة طرابلس الجبالية فى لَبْس حولى الورقة بذات الطريقة والإتقان والجمالية ولَم يخالفونهم فيه. واعتمدوه كزي طرابلسي وخاصة فى ليلة الدخلة. والأهزوجة (الحُولي ورقه أهو جي) هي إعلام بقرب وصول العريس وبدء رحلة السكينة الزوجية».

توضيح السيد مختار الغول أعلاه قد يكون كافيًا حاليًا، ما لم أقرأ أو أسمع في المستقبل القريب بمن يشكك فيه، أو يضيف إليه أو يخالفه الرأي.

وبذلك، انجلَى لي- ولو مؤقتًا- لغز «الحُولي ورقه» بعد سنوات من الغموض الطفولي ليكشف عن حكاية / رمز للفرح: لحظة بداية حياة جديدة. الأهزوجة تلك تحولت من مجرد إيقاع مرح وراقص إلى رمز للانتظار المملوء بالأمل، والترحيب بمستقبل مجهول ومشرق في آن. وكشف لي أيضا عن شيء أعمق: جمال وبساطة تراثنا الشعبي، في قدرته على اختزال مشاعر إنسانية كونية (الحب، الانتظار، الفرح بالبدايات) في كلمات شعبية تردد من جيل إلى جيل وتقهر النسيان.

أما عن «بوتوته» وأيامه، فإنه يظل مؤقتًا لغزًا، وفي الوقت ذاته تذكيرًا لطيفًا بأن بعض أسرار ماضينا تبقى مستغلقة علينا، ربما لكي لا تتوقف أسئلتنا عنها وتتواصل نقاشاتنا حولها.