أصالة البحث في زمن الذكاء الاصطناعي بين الروح البشرية وكفاءة الآلة
أصالة البحث في زمن الذكاء الاصطناعي بين الروح البشرية وكفاءة الآلة

في كل مرحلة تاريخية، تظهر أداة جديدة تعيد تشكيل علاقتنا بالمعرفة. اليوم، يلعب الذكاء الاصطناعي (AI) هذا الدور المحوري، معيدًا ترتيب العلاقة بين الإنسان وفكره، بين الباحث ونصه، وبين الأصالة والنسخ. لقد بات هذا الكائن الرقمي استجابة لطموحنا القديم في التفكير بسرعة أكبر والكتابة بدقة أوسع، فباتت أيام من البحث تختصر في دقائق معدودة، حيث يطلب الباحث من الآلة أن تلخص، ترتب، وتحلل، فتستجيب فورًا.
والسؤال المهم عن حدود الأصالة: عندما تكتب الآلة؟
لقد قرأت مؤخرًا مقالًا في موقع ثقافي، جذبني عنوانه وتوازنه اللغوي وسلاسته المفرطة. تلك السلاسة المبالغ فيها أيقظت شكوكي حول أصالته. عندما أدخلت المقال في أداة ذكاء اصطناعي لتقييمه، وصفته بأنه بحث ممتاز. ولزيادة اليقين، سألت الأداة نفسها عن مدى تدخل آلة مثلها في كتابته، فجاء الجواب صارمًا: نعم، بنسبة تسعين في المئة. ولتأكيد هذا الاستنتاج، طلبت من الذكاء الاصطناعي أن يُنجز لي بحثًا مشابهًا، مع تغيير زمن أو عصر الموضوع ذاته، فكانت النتيجة بحثًا رائعًا ومليئًا بالمعلومات في ثوانٍ معدودة.
تضعنا هذه التجربة أمام نقاش وجودي حول درجات أصالة البحوث، وإشكالية التساؤل عن الحد المسموح به في الاستعانة بالذكاء الاصطناعي. الآلة، بينما تنتج الجمل المثالية، تسحب من النص شيئًا لا تراه العين: نَفَس الكاتب وروحه. لقد جعلتنا هذه الأدوات أكثر كفاءة، لكنها أيضًا جعلت السؤال القديم أكثر إلحاحًا: هل الأصالة في الجهد أم في الفكرة؟ وهل البحث الحقيقي هو ما نكتبه؟
أنا من أشد المدافعين عن الاستخدام الواعي والاستعانة المدروسة بالذكاء الاصطناعي، مع إدراك أن الأصالة ليست رفضًا للجديد، بل القدرة على الاحتفاظ بروحنا وسطه. لقد غير الذكاء الاصطناعي فكرتنا عن البحث في المراجع، وأصبح ينجز الخطوات التمهيدية في هيكلة البحث، وإعادة الصياغة، والتصحيح الإملائي والنحوي.
أجد أن أهم ميزة يقدمها الذكاء الاصطناعي هي توفير بديل عن المراجعين والمشرفين والمحكمين لاكتشاف عيوب ما نكتب. فاليوم، لدينا عشرات النماذج من الذكاء الاصطناعي لتقييم البحوث وتدارك مواطن الخلل فيها، مما يزيد من أهمية الاستعانة به وجديتها في عديد المجالات العلمية والأدبية والثقافية.
في المقابل، يقف صف من المحافظين الذين يعدون هذه الاستعانة محض افتراء وتجنٍ وتزوير. لكن لا يمكن اعتبار رأيهم الحد الأخلاقي الذي يجب أن نقف عنده، تمامًا كما لم يتوقف التاريخ عند رفض الطباعة أو الآلة الكاتبة. فلماذا يقبلون استعمال السيارة للوصول مبكرًا، أو الآلة الحاسبة، أو الكمبيوتر الذي يعبرون عبره عن آرائهم، ولا يقبلون استعمال أداة تسهل العمل الفكري؟ في الحالتين، هم يستعملون أدوات حديثة.
ويحق لنا التساؤل عن تحديد الحد الفاصل بين الأصالة في الفكرة والتحليل.
إن الحد الفاصل في استعمال الذكاء الاصطناعي يكمن في ثلاثة محاور رئيسية: أصالة الفكرة، وأصالة التحليل، وأصالة التوظيف. هذه الثلاثية هي الحكم على جودة المخرجات.
هنا تبرز إشكالية جودة المستخرجات البحثية الحالية. لقد وصف الدكتور نجيب الحصادي البحوث اليوم بأنها «دون روح علمية». كثير مما نقرأه نصوص ملتزمة بالقواعد ومستوفية للشروط، لكنها خالية من اللمعة الأولى، من الفوضى التي تلد الفكرة. أصبحت هذه المخرجات تهتم بالشكل وتتبع خطوات المنهجية العلمية بطريقة جامدة، كمن يصنع «تماثيل جميلة المظهر، لكنها بلا حياة» في قوالب مجهزة مسبقًا. والسؤال: ما جدوى هذه الدراسات إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على توليد ما هو أفضل منها؟
لذلك، يجب أن نتذكر النسب التي يقترحها الذكاء الاصطناعي نفسه في توازن الجهد:
– المرحلة الإبداعية وتحديد الفرضيات: 80–90% جهد بشري (لأنها تحتاج إلى فهم عميق وسياق ثقافي وعلمي).
– جمع البيانات وتحليلها الأولي: 40–60% دعم اصطناعي (لكفاءة الآلة في فرز وتحليل البيانات الضخمة).
– كتابة التقارير والمراجعة: 30–50% دعم اصطناعي (لصياغة النصوص وتلخيص الأدبيات، مع بقاء الحكم النهائي للبشر).
يمكننا القول: لن يكون الذكاء الاصطناعي عدوًا لنا ما دمنا لا نُسلمه عقولنا كاملة. هو أداة، لا عقل، مرآة، لا وحي. هو يساعدنا على الوصول إلى الفكرة، لكنه لن يمنحنا دهشة الوصول. البحث ليس تكديسًا للمعرفة، بل رحلة شك واكتشاف، والذكاء الاصطناعي لا يملك شغف هذه الرحلة.
الطريق إلى بحث أصيل لا يمر عبر رفض التقنية، ولا عبر الاستسلام لها، بل عبر إنسان يكتب بوعي، ويستخدم الآلة بذكاء دون أن يتركها تسرق صوته. فالعمل الجاد والأصيل بمساعدة الذكاء الاصطناعي هو الطريق الجديد في تطور هذه الحياة. سيبقى البحث الحقيقي هو ذاك الذي يُكتَب بالمعرفة والعاطفة معًا، حيث تلتقي البرودة المنطقية بالعصب الحي للفكر. الأصالة ليست في القلم ولا في الخوارزمية، بل في القلب الذي يختار الكلمة.
