الطريق إلى الله

كانت أستاذتنا في مادة النثر بقسم اللغة الإنجليزية، بجامعة بنغازي، في أواخر ستينيات القرن الماضي، سيدة جميلة، قد تكون أكبر منا بأعوام قليلة! وكنا نشاكسها! ولكن في حدود الآدب، بل وقد لا تكون مشاكسة، بقدر ما كانت محاولة منا للفت انتباهها، وأعترف أنني استفدت منها كثيرا، فلقد تزامنت تلك الفترة مع محاولاتي في كتابة القصة القصيرة، وانتبهت بحكم خبرتها أنني فعلا مهتم بمعرفة أسرار وفنون هذا النوع من الأدب، وكانت بالفعل متمكنة من مادتها، وكذلك من مادة الشعر. وتزامنت هذه الفترة مع المد الوجودي الذي تبناه المفكر الفرنسي سارتر وصديقته، وكذلك تراجم الأعمال الغربية التي قدمها للعالم العربي المترجم الكبير منير البعلبكى.
حينها كان التظاهر بانك (مفكر حر)، بحسب ترجمة (Free Thinker) كمصطلح هو أقرب ليعني عدم القناعة بالغيبيات، وعدم ربط الحياة بغير الواقع. فهي باختصار كان التظاهر فيها بعدم القناعة والتسليم بالغيبيات هي من صفات الكاتب، أو الأديب. وكان البعض منا متخذا هذا السلوك أو التظاهر به باعتبار أن الإنسان عليه أن يفكر من قبل أن يقتنع بأساسيات دينية تربينا عليها منذ بدء تعليمنا في كتاتيب مسجدنا فوصولنا المرحلة الابتدائية ونحن نحفظ على الأقل «جزء عم» من القرآن الكريم!
أعترف أنني كنت ضمن شلة ناقشنا أستاذتنا وكان اسمها (أن باراكلوف) في مثل هذه المواضيع، وكانت تخالفنا الرأي، وأذكر أنها أعطتنا قصة قصيرة وطلبت مني تلخيصها، مؤكدة أنها ستكون لنا كجزء من امتحاناتنا الشهرية، القصة لكاتب اسمه (جان باول – Jean Paul) وهو كاتب ألماني، والده كان مدرسا، وعاش في ظروف شديدة الفقر، بعدما توفي والده مبكراً. وكان من المفروض أن يدرس (جان باول) علم اللاهوت لكنه اتجه إلى الكتابة والتأليف، وبعد فترة إعداد طويلة ورفض دور النشر لأعماله، كتب جان باول أعمالاً جعلت منه مشهوراً لسنوات قليلة. وعندما كتب أحب أعماله إلى قلبه (تيتان، سنوات المراهقة) لم يجد نجاحاً يذكر، فاعتزل الحياة وعاش على هامشها إلى أن توفي في الثانية والستين من عمره.
من قصصه قصة مشهورة، عن طالب مغتر بنفسه غريب الأطوار يتباهى بأنه ملحد لاغيا فكرة وجود الله، مسببا له إزعاجا شديدا وفي نهاية الفصل الدراسي، وعندما سلم ورقة امتحانه النهائي سأله بسخرية: «هل تعتقد أنني سأجد الله في يوم من الأيام؟». فأجابه بحنق: «لا!» وغادر، وقبل أن يخرج من الباب ناداه: «توم..! إنني لا أعتقد أنك ستجد الله في يوم من الأيام.. لكنني متأكد أنه سيجدك!». فهز كتفيه وغادر غير مكترث. وبعد تخرج توم بسنوات، سمع الأستاذ أنه مصاب بسرطان لا شفاء منه!.
وذات يوم طرق توم باب أستاذه، فبادره الأستاذ متبسما: «تفضل».. قال له واستطرد: «لقد خطرت في بالي كثيرا وعلمت أنك مريض..»، فقاطعه قائلا: «نعم مريض جدا ولم يبق لي سوى أسابيع..»، فسأله برقة: «هل ترغب في الحديث…»، أجابه: «نعم .. بكل تأكيد!»، فسأله الأستاذ: «وما هو شعورك وأنت في سن الرابعة والعشرين، ومشرف على الموت؟».
فأجابه سريعا: «نعم .. نعم هناك أسوأ».. فقاطعه الأستاذ: «مثل ماذا؟»، فأجابه سريعا: «كأن تبلغ الخمسين وأنت تظن أن أهم ما في الحياة هو التسلية، وإغواء النساء وجمع المال والبذخ..!»، واستطرد أن ما جعله يبحث عن أستاذه ليخبره أنهم بعدما أخرجوا الورم وعرف نهايته، توقف عن بحثه عن الله، فلقد تأكد له أنه موجود وقرر أن يواصل ما تبقى من عمره وأن يصحح حياته لأن التعاسة الحقيقية هي أن تعيش من غير أن تحب، وأن تترك الدنيا من غير أن تقول لمن تحبهم إنك تحبهم!، ولقد اتجهت نحو والدي، كان يقرأ صحيفته، اقتربت منه.. أنزل الصحيفة على ركبتيه ونظر إليَّ وتساءل: «ما الأمر؟».
فقلت له: «أنا أحبك يا أبي.. أردتك أن تعرف هذه الحقيقة!»، سقطت الصحيفة من بين يديه ثم بكي وعانقني.. وتحدثنا طوال الليل بمثل ما لم نتحدث فيه طوال حياتنا! وكان الأمرأسهل مع والدتي و.. أخوتي»، وتحدث كثيرا عن الله وعن الحب.. فقاطعته قائلا: «أظن يا توم أنك تقول كلاما أكثر شمولا مما تظن خلاصته أن الطريق الأكيد إلى الرب هو الانفتاح على الحب لا امتلاك الرب أو استعماله كأداة مواساة موقتة في زمن الضيق!».
