عن الفاشر العصية

خالد المطاوع

منذ فترة وأنا أشعر بوخز ضمير خفيّ، لأنني لم أُولِ الصراع المأساوي في السودان ما يستحقه من اهتمام. الأخبار الواردة من الفاشر في هذه الأيام، والصور والتقارير عن المجاعة والحصار، وعن المجازر والقتل الجماعي لمجرد القتل، تذيب قلب الحجر. لقد عاش أهل الفاشر، بالأخص، حصارًا يكاد يضاهي ما عاناه أهل غزة.
هل التزمتُ الصمت لأن ما يجري في السودان يُوصَف بأنه «حرب أهلية»؟

عبارة «الحرب الأهلية» كوصف لما يجري في السودان تخفي وراءها صراعًا داميًا بين كيانين مسلّحين يدّعي كلٌّ منهما الشرعية، ويمارس كلٌّ منهما الاضطهاد، بل والإبادة بحق أعداد هائلة من الشعب الذي يزعم القتال باسمه.

القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع كلتاهما ملوّثتان بذنوب نطام البشير الذي خدمتاه لثلاثة عقود من الزمن، وكلتاهما متورطتان في قمع الانتفاضة المسالمة التي أطاحت بالبشير سعيا لدولة مدنية عادلة، تضمن حقوق وحريات كل مواطنيها. كلتاهما أثبتتا أنهما فاسدتان، ومتسلطتان، وتخضعان لوصاية رعاةٍ إقليميين يحتقرون فكرة السيادة الشعبية نفسها.

لا يمكن إذن لمن يملك ضميرًا حيًّا أن ينحاز إلى إحداهما دون الأخرى. فهل هذا هو سبب صمتي؟ لأن غياب جانبٍ أخلاقي واضح يشلّ الرغبة في الكلام، ولكن إذا لا يتجلّى الموقف الأخلاقي إلا حين يتوافر طرف يمكننا الوقوف إلى جانبه، فهل هذا حقًا موقف أخلاقي؟ ماذا عن الضرر الذي يحدث في غياب هذا الطرف المنشود؟ ألا يستوجب الضرر موقفا أخلاقيا.

تخلّى قادة الفصائل المتحاربة في السودان، ومعهم داعموهم الأجانب، عن الشعب السوداني، بل ونحن أيضًا، من نفاخر بتضامننا مع الحكم المدني وضحايا القهر والاستبداد، تركناه يواجه مصيره وحيدًا. حين أتأمل ردّي الشخصي، أو بالأحرى غيابه، هنا وربما في مواقف أخرى، أجد أن تعاطفي لا تحركه إلا السردية الواضحة حين يمكن تمييز الضحية من الجلاد بسهولة.

في غزة، تبدو المعادلة الأخلاقية جليّة: شعب محاصر، يُقصف وتُصادر أرضه، ويقاوم الإبادة على يد محتلٍّ يفوقه قوة بأضعاف. أما في السودان، فالمعادلة تبدو غير متماسكة، فالضحايا والجناة عموما يتشاركون اللغة، والدين، والنشيد الوطني، وحلم الوطن الواحد.

جزءٌ من تردّدي، أعترف الآن، ينبع أيضًا من مكانٍ أعمق وأكثر إزعاجًا. فعلى الرغم من إدراكي التامّ أن أنظمتنا، الشرعية منها وغير الشرعية، تُعدّ من أعتى وأشرس المؤسسات السياسية في العالم، يصعب عليّ أن أُقرّ بأن فاعِلين عربًا أو مسلمين، أو حتى من ما يُسمّى «العالم الثالث»، يمكن أن يجسّدوا القسوة والظلم نفسهما اللذين استخدمتهما القوى الاستعمارية ضد شعوبنا.

ومن موقعي هنا في هذا الكون، لا يزال من العسير أن أوجّه الاتهام إلى من يشاركونني الهوية الثقافية بارتكاب الفظائع بينما تتعرض منطقتنا ومواردها وسيادتها وشعوبها لهجوم مستمر. عندما أرى غزة تحترق أشعر بألمها، وبشعورٍ بالشراكة في معاناتها، لأنني أُقيم في الدولة الإمبريالية التي تُسلّح جلّاديها. وحين أنظر إلى السودان، أغضّ بصري خجلًا. كلتا القضيتين تتطلبان شجاعةً، لكنها ربما شجاعتان من نوعٍ مختلف.

أعلم أن الصمت ليس حيادًا. ربما هو سكون الإرهاق، ذلك السكون الذي يكاد يكون تواطؤا. فعندما أستعيد ثورات الربيع العربي، ونشوة الإيمان بـ«الشعب»، أتذكر أيضا أن السنوات التي تلتها كانت سلسلة من الخيبات: انتفاضات أُخمِدت، أحلام اختُطفت، وآمال تحطمت. وكما اتضح لي ولغيري، أن «الشعب» كائن متقلّب، يسهل تسليحه في معارك ضد مصالحه، ودفعه لملاحقة أعداء وهميين أُقنع بأنهم خصومه، وهو كذلك كائن هشّ، يسهل اختطاف قضاياه، وتفتيتها إلى فتن وصراعات صغيرة على الموارد المحدودة، وكذلك تفكيكه لفِئات متصارعة تصب تضحياتها لصالح القوى والقيادات السياسية التي لا تجيد سوى لغة العنف، وتستند على حلفاء يجيدون تحويل الصراعات السياسية إلى اقتتال بين أبناء الوطن الواحد.

ليس غريبًا إذن أن نرى كثيرًا من الأصوات التي نادت بالثورة، بل وشاركت فيها، تقف اليوم دعمًا لقوى أشد استبدادًا وعنفًا من الأنظمة التي ثارت عليها، متخلين عن القيم التي أعلنوها، خانعين لأفضل الشرين إما لمصالح مادية، أو نكاية لخصومهم، أو خليط من الدافعين. أجل لقد علمتنا الثورات المضادة أن اليأس والانتهاز قد يكونان مُعديين، كما كان الأمل يومًا ما.

وهكذا، حين نهض السودان، وسُحق وسُرقت ثورته النبيلة، شعرتُ بأنني عالق في كابوس مألوف، طويل المدى. ولكن هذا أيضًا شكل من أشكال اليأس، فهو ليس يأس المظلوم، بل يأس المراقب المخدوع، الذي يقف مع الشعب ويكتشف أن الشعب لا ينتصر أبدًا. ومع مرور الوقت يجد أن لغة التضامن تضعف شيئًا فشيئًا، كأنها تآكلت بفعل التكرار.

هل يجدي إذن أن نقف إلى جانب من لا جانب لهم؟ أن ندافع عمّن لا تصل أصواتهم إلى مسار القرار أو حتى إلى مشاورات السياسة؟ وماذا يعني أن نتمسّك بفكرة «الشعب» بينما بات «الشعب» هشًّا لا يعرف نفسه ولا يكاد يُعرَف؟
هذه الأسئلة البلاغية، التي طرحها كثيرون على أنفسهم، على الرغم من عمقها، تنبع في جوهرها بما يُعرف بـ«إلقاء اللوم على الضحية»، فلنتركها جانبًا.

إذن أعود لأسأل: هل يبرّر اليأس أم يدين؟ ولعل السؤال الأصدق هو: كيف نحافظ على ضمائرنا حيّة في عالم يواصل إنتاج أسباب الشلل؟ وكيف نثابر في رصد أولئك الذين جعلهم العالم غير مرئيين، وأن نتحدث حتى حين لا تكون الكلمات كافية، وأن نأسى حتى عندما يبدو الأسى طقسًا متكرّرًا بلا جدوى؟!

لا شكّ أن السودان، مثل غزّة، يكشف هشاشة أطرنا الأخلاقية، وفراغ خطابنا عن حقوق الإنسان والديمقراطية والقانون الدولي، ولا سيّما حين نقتصد في تعاطفنا، ونقنّن طاقاتنا الأخلاقية. غير أنّ ما جرى لأهل الفاشر، ولسائر أهل السودان، يذكّرني بأن الوقوف إلى جانب الضحايا هو الجانب الصحيح الذي ينبغي اختياره، مما قد يجعلنا نحن الطرف المنشود، وأن هذا الموقف ليس عبثا حتى حين تكون القصة معقّدة، وحين يبدو الصراع ميؤوسًا منه. فلا يجوز الصمت لمن يملكون القدرة على الكلام، ولا يجوز كبت التعاطف لمن منحهم القدَرَ الإحساس والإدراك.

هنا أعود إلى إحساسنا بالذنب، والإيعاز الداخلي باللامبالاة الذي يأتينا كبديل مغرٍ له. أرى أن بوسعنا أن نحوّل الذنب من طاقة معيقة محبطة إلى وعيٍ مضطربٍ، نستمدّ منه قوة إرادية تُثبّتنا في مواجهة المظالم التي تحيط بنا، حتى وإن كنّا مجرد شهودٍ عليها، وأن علينا نستنير بضوء الشعور بالآخر مهما كان خافتا بدلا من أن نتركه ينطفأ. لا أدري كيف نقوم بذلك بشكل جماعي، فهذا الصراع الروحاني ربما، كما تقول الترنيمة الشهيرة، هو ذلك «الوادي الموحش الذي عليك أن تعبره لوحدك، ولن تعبره تماما»، فلا معنى للحياة دون يعبر الإنسان تلك الوديان.