الحداثة ونهاية «الفيض» (قراءة في رواية صالح السنوسي: سيرة الفيض العبثية)*

الحداثة ونهاية «الفيض» (قراءة في رواية صالح السنوسي: سيرة الفيض العبثية)*

عمر أبو القاسم الككلي

في روايته «سيرة الفيض العبثية»، يسرد علينا صالح السنوسي ما يسميه سيرة الفيض، وهي منطقة موجودة في الواقع الجغرافي بالمنطقة الشرقية من ليبيا.

الرواية تمتح، إلى حد بعيد، من تقاليد الحكاية العربية، وتتبع علاقة «الفيضيين» بالمكان وبالزمان ماضيا وحاضرا، أي بتاريخ الفيض، وعلاقة الفيضيين فيما بينهم وعلاقتهم بتراثهم والعادات والتقاليد ومقدسات المكان، فالرواية سجل ثقافي وتاريخي وأنثروبولوجي واجتماعي واقتصادي وسياسي. إنها سجل شامل لوجود الفيضيين الحي.
شخصيات الفيض البارزة يجر كل منها تاريخا حافلا، متضاربا أحيانا، ولكل منها طبائعه وميوله الشخصية المختلفة، وسماته طبعا.

وتاريخ «الفيض» تاريخ متقطع، لأن الفيضيين لا ينطلقون في تأريخهم (لفيضهم) من نقطة محددة في الزمن الماضي حتى حاضرهم، وإنما هم يؤرخون بالأحداث المهمة، سلبية وإيجابية، التي جرت عليهم وعلى فيضهم. وكلما جد عليهم حدث مهم ينسون، تقريبا، الحدث الأول ويتحولون إلى التأريخ انطلاقا من الحدث الجديد، لكأن الفيض وفيضييه قد ولدوا من جديد.

عاش الفيضيون حياة متناغمة متماسكة شبه مغلقة على نفسها. لكن قيام دولة الاستقلال ودخول الحداثة كان وبالاً عليهم. فأول اصطدام لهم بالحداثة، أو الدولة الحديثة (دولة الاستقلال) كان دخول شركة نفط أميركية دخلت أرض الفيض للتنقيب عن البترول، فخض هذا الحدث سكان الفيض وانقسموا بشأنه بين رافض وقابل.

وجود شركات البترول المنقبة عن النفط وشروع الدولة في بناء الشرطة والجيش جعل كثيرين من أبناء الفيض يسعون إلى الحصول على وظائف في هذه المجالات ويهجرون الفيض ويتوزعون، جماعات وفرادى، على مناطق مختلفة تعد، بمقاييس ظروف تلك الفترة، بعيدة عنه. وبتراجع الإنتاج الزراعي والرعوي في الفيض حدثت حركات نزوح متعاقبة أفضت إلى أن يصبح الفيض يبابا بلقعا.
رواية «سيرة الفيض العبثية» مرثية موجعة لمكان وتجمع بشري وحياة نابضة. لا توجد في الرواية نغمة معادية للحداثة، هي مجرد مرثية لمكان وتجمع بشري نكبته الحداثة.

ثمة مسألة يبدو لي أنها تقطع التسلسل الحكائي، وهي أن المؤلف عندما يريد أن يورد قولا على لسان شخصية من الشخصيات بالعامية المتداولة يمهد له بشرح ضمن سياق السرد ثم يورد نصه بالعامية. طبعا أنا أفهم أن الهدف من هذا هو إفهام القارئ العربي. لكن لماذا نتقبل نحن الليبيين لهجات البلدان العربية جميعها، في حين يتوجب علينا «ترجمة» لهجتنا إلى الفصحى كي يفهمنا أشقاؤنا؟!

* منشورات دار الفرجاني. 2024