التفرعن الرقمي.. تدنيس حنون وإعادة الرمز إلى الشارع

التفرعن الرقمي.. تدنيس حنون وإعادة الرمز إلى الشارع

طارق القزيري

لم يكن «الترند الفرعوني» مجرد ظاهرة عابرة في مصر، بل امتد للعالم العربي وغيره، فيما يمثل موجة فكاهية واسعة رافقت افتتاح المتحف المصري الكبير في الأول من هذا الشهر نوفمبر.
ولكنها من جهة أخرى تمثل حالة دراسة جديرة بالدراسة والتأمل، لا كردة فعل من عقلية المؤامرة التاريخية أو السلطوية، بل في تحليلها كظاهرة اجتماعية/ثقافية، نموذجية، لمقاربة كيف تستجيب الجماعات لتلك اللحظات النادرة أو غير الشائعة عموما، وفهم آليات اشتغالها الجمعية، وفقا لعلوم النفس/الاجتماع.

بداية تبدو الظاهرة مماثلة لما يسميه اميل دوركهايم بـ«التأجج الجمعي» أي تلك اللحظات التي تتوحد فيها الجماعة حول رمز مشترك فتتولد طاقة احتفالية. عابرة للطبقات والأجيال. فالحدث التاريخي الضخم خلق نافذة حماسة مثالية.

الهوية والفخر الجماعي
أما من منظور نظرية الهوية الاجتماعية التي وضعها «هنري تاجفيل وجون ترنر» فيعكس الترند آلية الاحتماء بـــ«المجد العاكس» أي الارتباط بإنجاز جماعي كبير، لرفع تقدير الذات الجمعية.
فتحويل الصور إلى ملوك فراعنة باستخدام الذكاء الاصطناعي ليس مجرد لهو تقني، بل هو شكل من أشكال الاتصال الرمزي، بمصدر فخر تاريخي، وإعلان انتماء مبهج لمجموعة متفردة على المستوى العالمي.

دعنا نذكر هنا بأولمبياد لندن، وعبارة «Keep Calm»، التي مرت بفورة عالمية، وباشتقاقات لا تنتهي، لكن الحدث هنا «وطني» خاص، ما منحه بعدا شخصيا نفسيا، في مصر على الأقل.
الفكاهة كآلية نفسية معقدة

اللطافة المصرية والسخرية المضحكة بلا حدود، تشتغل وفق ما يعرف بنظرية «الانتهاك المأمون» في علم النفس المعاصر، والتي تشرح أن الضحك يتولد عندما يحدث انتهاك لمعيار ما، لكن بطريقة لا تُشعر المتلقي بتهديد.

وحيث تقوم النكات والميمز والمشاهد التمثيلية بانتهاك هيبة الرموز الفرعونية، لكن دون تهديد فعلي، مما يحررها من الرسمية، ويجعلها قابلة للتداول في الحياة اليومية.
هنا الفكاهة تؤدي أيضا وظيفة التنفيس النفسي فهي تخفف التوتر الناتج عن التوقعات العالية والضغوط اليومية وتحول الحدث من احتفال نخبوي بعيد إلى طقس شعبي يمتلكه الجميع.

الديمقراطية التقنية والمشاركة الرقمية
في ليبيا كذلك شاهدنا بعض «الفراعنة» بأزيائهم على الأقل، كمحاكاة أو مشاركة عبر بيئة المنصات الرقمية وأدوات الذكاء الاصطناعي التي خلقت نوعا من الديمقراطية التعبيرية غير المسبوقة، فلم تعد المشاركة في الاحتفال تتطلب مهارات أو إمكانات إنتاجية.

فمن أراد يستطيع أن يصبح فرعونا، بكبسة زر. هذا عزز التوافق الاجتماعي الإيجابي والشعور بالوحدة الجماعية، وساهم في الانتشار السريع عبر آلية العدوى الاجتماعية المدفوعة بالتقليد وبالخوف من تفويت الحدث.

الإحياء الثقافي والهوية المرنة
تكشف الظاهرة – ضمنيا – عن مرونة الهوية الثقافية المصرية، فالفراعنة لم يعودوا رموزا محنطة في كتب التاريخ، بل أصبحوا رموزا حية قابلة لإعادة التوظيف في السياقات المعاصرة. هذا «التدنيس الحنون الضاحك» للرمز يعيد ملكيته للشارع، ويحول السردية الوطنية من خطاب علوي إلى احتفال شعبي تشاركي.

موجة «التفرعن» ليست عبثا عابرا، بل تعبير نفسي اجتماعي عميق عن حاجة جماعية للاحتفال، والاعتراف والاقتراب من رمز مهيب، بلا رهبة. هي طقس رقمي معاصر يلتقي فيه التاريخ العميق بالتكنولوجيا الحديثة، وبالروح المصرية الخفيفة في لحظة فريدة.
والآن ماذا عنا؟
هذه الظاهرة وقابليتها للدراسة، وفقا لعلوم الاجتماع والنفس، تقول لنا إن رصد اليومي وتحليله لم يعد ترفا بل شرطا لفهم ذواتنا العامة.

لا يعنيني كثيرا هنا «الترند الفرعوني» إلا بوصفه دليلا بيّنا على قابلية «الترندز والفيرال» والموجات الافتراضية للتحقق والتفسير والتأويل الاجتماعي/الثقافي؛ هذا كله لا يزال بعيدا عن منصاتنا العلمية: جامعات لا تنظر إلى السوشيال ميديا إلا كأداة تواصل، ومراكز بحوث تتعامل مع الفضاء الرقمي كملحق للعالم الحقيقي لا كعالَم منتج للمعنى.

ما نحتاجه عمليا هو تحويل اللحظات «الفيرالية» إلى حقول رصد: بروتوكولات قياس للمزاج العام والزمن الداخلي للترند، ومقاربات مقارنة تربط بين الرمز الوطني والأداء اليومي للفكاهة. عندها فقط سننتقل من التعليق إلى التفسير، ومن رد الفعل إلى تراكم معرفة يساعد الصحافة والثقافة وصنع السياسات.

نحن كما قال أحدهم، «فراعنة بلا فكاهة… ولا دراسة أيضا»؛ والأدق أن نقول اليوم: بلا منهج، بلا أرشيف، بلا أسئلة جريئة؛ تتعامل مع الواقع الرقمي كموضوع معرفة لا كزينة وخطاب ترفيه.
——————————————
الفيرال: محتوى بعينه ينفجر، بسبب انتشار سريع «فيروسي» ويخبو بسرعة. أما الترند فهو أطول بقاءً، متدرج وطويل نسبيا، يغيّر الذائقة على مدى أيام أو أسابيع.