من المنفى

منصور بوشناف

يحتل المنفى مساحة لا بأس بها في الذاكرة والوجدان الليبيين، فلقد كان التهجير والنفي جزءا مهما من تاريخنا الطويل، فلم تمر فترة من تاريخنا إلا ونفي فيها ليبيون من موطنهم واغتربوا بعيدا عن ديارهم، كما أننا لا نتردد في القول إن تكويننا ككيان حديث نتج عن هجرات قدمت وأخرى انتقلت عبر آلاف السنين.
فمنذ الجفاف العظيم الذي ضرب الشمال الأفريقي وهجرات الليبيين ومنافيهم متواصلة حتى الآن، راحلون منفيون من هنا أو قادمون منفيون من هناك.

إن الهجرة والمنفى، هذا التدافع البشري من جغرافيا إلى أخرى ظل أهم عوامل الدفع والتفاعل في تاريخ هذه البلاد، ولسنا بالتأكيد نختلف عن غيرنا من الشعوب في هذا.

أنا هنا لا أؤرخ للمنفى والنفي ولكنني سأحاول أن أجمع صورة للبلاد أو ليبيا كما رسمها كتاب منفيون أو بتعبير أدق عاشوا في المنفى «مهجرين أو مهاجرين» بل وحتى «مغتربين» داخل البلاد، بالطبع لن تكون هذه المداخلة قادرة على جمع والتقاط كل ثمار المنفى التي طرحتها شجرة الأدب الليبي الحديث، فأول القصور فيها سيكون غياب شعر المنفى الليبي عنها فسأكتفي بالنثر المكتوب والمنشور.

أحدد المنفى هنا بأنه حياة الإنسان خارج وطنه وبعيدا عن أهله لأسباب مختلفة، مثل الظروف الاقتصادية وظروف الحياة أو نتيجة للحروب والصراعات أو نتيجة للقمع السياسي وطلبا للحرية الفردية.

عتبة المنفى الليبي الأولى هي الرحيل والترحال الذي يأخذ مكانة مهمة في الإنتاج الثقافي الشعبي الشفوي في ليبيا فلقد أنطقت ظروف الحياة الصحراوية الليبية الليبيين شعرا وحكايات وأمثالا وحكما رسمت صورة للرحيل، فالرحيل والسعي في مناكبها وريادة النجوع بحثا عن الماء والكلأ، كلها كانت صورة للصراع من أجل البقاء وسعيا محمودا ومبجلا في ثقافتنا.

فالرحيل أو لانتقال من الموطن إلى موطن آخر كانت أهم القدرات على البقاء، حتى إن البقاء أو الاستقرار في موطن واحد لا يعد ميزة إيجابية بل هو الركون والاستسلام والموت، كان «كوجيتو» أبناء الكفاف الاقتصادي «ارحم بوي خلاني هواوي، كيف النجم في كبد السماء» وهواوي تعني الحر الطليق الذي لا يستقر ويرحل من منفى إلى منفى، جذوره قادرة على الفكاك من تربتها والبحث عن تربة أخرى، إنه نجع كامل أو حتى قبيلة تحمل جذورها وبذورها في «المشافهة»، «مخلاة الهوية» التي ظل البدو الليبيون يحملونها تاريخا وأنسابا وعادات وتقاليد ومعتقدات. تلك المخلاة الثقافية كانت الوطن القابل للنقل والرحيل.

«الثقافة كانت هي الوطن بالنسبة لهم ليست الجغرافيا وحدودها»
عتبة المنفى الثانية هي الاغتراب وهو ذلك الشعور بتقطع الجذور والانفصال عن الأرض أو عن المجتمع أو عن الثقافة وهو في الغالب حالة فردية تصيب شريحة المثقفين والفنانين والثوريين وتدفع بهم إلى المنفى بعيدا عن الواقع المعاش أو بعيدا عن الجغرافيا أو بعيدا عن المجتمع.

الاغتراب ومعاناته هو منفى حقيقي وإن ظل هذا المغترب يعيش وسط أهله وفي وطنه. «فقد يكون المنفى وطنا وقد يصير الوطن منفى» كما يحدد خليفة الفاخري في كتابه «موسم الحكايات» صورة المنفى ومعناه.

أسباب الوجود في المنفى متعددة ومتنوعة وأبرز أسبابه في التاريخ الليبي كان الفقر والمجاعات نتيجة شح الموارد وسيادة التصحر فلقد ظل الليبيون يتنقلون من منفى إلى منفى بحثا عن الماء والكلأ كما أسلفت

وكانت الصراعات والحروب عاملا كبيرا ومهما في تجارب المنفى الليبي وتنوعت تلك الصراعات والحروب بين القبلية وحروب المقاومة ضد الغزاة الأجانب.

وآخر هذه الأسباب كان «العقدي» أو «الأيديولوجي» الذي يشمل الديني أو المذهبي أو السياسي، وليبيا كانت منفى للكثيرين من أصحاب العقائد أو المذاهب وربما تكفي الإشارة إلى أنها كانت «المنفى الاختياري» لمؤسس الحركة السنوسية وبالطبع كانت الوطن والديار لأبناء منفيين منه إلى منافي كثيرة لأسباب عقدية وسياسية «في عصرنا الحديث» خاصة.

الحنين إليها رسم صورتها من المنفى، ذلك الحنين لخصه أحمد رفيق المهدوي من منفاه قائلا:
«يا أيها الوطن المقدس عندنا… شوقا إليك فكيف حالك بعدنا؟»
«أما هواك فلا مجال لذكره… فالحب ما منع الحديث الألسنا»
ومن عتبة المنفى الأولى: الرحيل

الرحيل أو التهجير أو الهجرة شكلت هذه المفردات ملاحم الإنسانية الأهم، فقد كان الرحيل بحثا عن الثمار أو للصيد أو للغزو أو هربا من الكوارث الطبيعية والصراعات الاجتماعية رحيلا أو هجرة أو تهجيرا، لقد كتبت تجربة الرحيل «عتبة المنفى الأولى» أهم ملاحم الإنسانية فالإلياذة تمثل رحيل الإنسان غازيا والأوديسا الرحيل عائدا إلى الوطن والضياع ومعاناة العودة من المنفى، تغريبة بني هلال والرحيل إلى منافٍ جديدة، الإلياذة والرحيل تهجيرا بعد دمار الديار والبحث عن منفى. منطق الطير، والشهنامة إلخ…

«ترفق بنفسك وارحل يا رضوان” وتلك كانت صرخة رضوان بوشويشة في مجموعته القصصية «موجة حب إلى غرناطة» التي صدرت نهايات القرن العشرين، وفي قصص تلك المجموعة لا يتوقف تدفق سرد رضوان لخراب المدينة والبلاد وتحولها إلى منفى يتجول في شوارعه التي تعج بغرباء يبرطمون بلغات لا يفهمها وبنفايات قرون من التخلف والظلام مرفرفا بأجنحة من الأحلام والنثر نحو فردوس غرناطة المفقود، متكئا على ميراث الترحال الليبي الطويل، تاركا وراءه أطلال ديار ونجع، هاجا إلى منفى آخر، لكأنها سيرة أخرى «للوزان» بحثا عن فردوس مفقود في غرناطة. إن البلاد تتحول إلى منفى إجباري ويتطلع أبطال سردها إلى منفى اختياري.

في موسم حكايات الفاخري وفي حكاية ابن مراده الذي هاجر إلى منفى المدينة، إلى «بنغازي» يتحول المنفى إلى وطن حقيقي فالحياة تتيسر سبلها ويصبح أهل بنغازي أهلا وعائلة لذاك المنفي، ولكن وفي لحظة مفارقة غريبة تقرر السلطات الإيطالية نفي مجموعة من المناضلين الذين مدوا المجاهدين ببعض المساعدات ومن بينهم ذاك الرجل إلى واحة صغيرة وفقيرة هي مرادة، ليعود منفيا من منفاه الذي صار وطنا إلى منفاه الذي هرب منه، ربما عاش بطل حكاية الفاخري تجربة رضوان قبل أن يعيشها رضوان بنصف قرن أو أكثر وربما كان يصرخ «ترفق بنفسك وارحل».