من «صوت العرب» إلى «جوجل».. الثورات التي غيّرت العالم دون أن نعرف أصحابها

من «صوت العرب» إلى «جوجل».. الثورات التي غيّرت العالم دون أن نعرف أصحابها

المهدي هندي

في الخمسينيات والستينيات، كانت إذاعة «صوت العرب» السلاح الإعلامي الأهم والأكثر تأثيرًا في المنطقة العربية. صوتٌ واحد من القاهرة كان قادرًا على إثارة حماس الملايين من المحيط إلى الخليج، وقادرًا على إشعال ثورة أو تغيير مسار الأحداث في أي دولة.

في الواقع، كانت «صوت العرب» ثورةً من نوعٍ آخر آنذاك. لكن على الرغم من شهرتها، التي ما زالت حاضرة حتى اليوم، فإن القليل جدًا من الناس يعرف من هم مؤسسوها الحقيقيون.

من يتذكر فتحي الديب أو زكريا محيي الدين، اللذين وضعا الأسس السياسية والإعلامية للإذاعة؟ معظم الناس يتذكرون فقط أحمد سعيد، المذيع الشهير، أو جمال عبد الناصر، «الزعيم» الذي ارتبط اسمه بها.

واليوم وبعد أكثر من نصف قرن، يعيش العالم ثورةً أخرى، لكنها رقمية هذه المرة.

في ثورات القرن الجديد يعرف الجميع أسماء، مثل مارك زوكربيرج، مؤسس «فيسبوك»، أو إيلون ماسك، صاحب «إكس» و«سبيس إكس»، أو حتى بيل غيتس وستيف جوبز.
لكن في نظري، فإن الثورة المعرفية الحقيقية يقف وراءها أشخاص لم يظهروا كثيرًا في الواجهة، وأبرزهم مؤسسا جوجل.
الغريب في شركة جوجل – التي غيّرت مفهوم المعرفة والاتصال ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم أجمع، وجعلت كل معلومة في متناول اليد خلال ثوانٍ – أن مؤسسيها الحقيقيين ما زالوا يعيشون في الظل.

فمحرك البحث اليوم هو لسان العالم، كما كانت «صوت العرب» لسان الأمة في زمانها، ولا تكاد تجد هاتفًا أو مكتبًا أو مدرسة إلا وفيها بصمة من بصمات جوجل.

وعلى الرغم من هذا الانتشار الخرافي، قليلون من يعرفون أن وراءها شخصين هادئين من جامعة ستانفورد: لاري بايج وسيرجي برين. فكما كانت صوت العرب «ثورة إعلامية بلا وجوه»، فإن جوجل هي «ثورة معرفية بلا نجوم». الكل يعرف المنصة، لكن القليل يتذكر من صنعها.

الفرق بين الماضي والحاضر هو أن الإعلام في الماضي كان يصنع «رمزًا»، بينما الإعلام الرقمي اليوم يصنع «خدمة».

في الخمسينيات، كانت كل كلمة يقولها أحمد سعيد تهزّ الشارع العربي. أما اليوم، فكل كلمة تكتبها على جوجل تهزّ الإنترنت كله، ولكن دون وجهٍ محددٍ يمثلها.

اختارت جوجل عمدًا أن تبقى بلا بطل، فهي ليست مثل ستيف جوبز الذي كان نجم المسرح، ولا بيل غيتس الذي كان وجه البرمجيات، ولا مارك زوكربيرج الذي واجه الإعلام والسياسة. لقد آمن لاري وسيرجي بأن التكنولوجيا يجب أن تتحدث بروحها، لا بأسماء أصحابها. ولو راجعنا التاريخ، لوجدنا أن «صوت العرب» غيّرت وعي الأمة، كما غيّرت جوجل وعي العالم.

لكن في الحالتين، لم يتذكر الناس المهندسين الذين صنعوا المنصة، بل الوجوه التي ظهرت في المقدمة، وهذا طبيعي في عالم الإعلام: من يملك الصوت يملك الصورة. وما حدث في الخمسينيات يتكرر اليوم، ولكن بلغة مختلفة.

كانت «صوت العرب» ثورة إذاعية غيّرت الوعي السياسي، وجوجل ثورة رقمية غيّرت الوعي المعرفي.

وفي الحالتين، المجد ذهب للواجهة، وبقي الظل للمؤسسين الحقيقيين. وربما بعد خمسين عامًا، حين يدرسون تاريخ الإنترنت سيكتبون: «كما كان فتحي الديب وراء صوت العرب، كان لاري بايج وسيرجي برين وراء جوجل».