كيف نشتري أقنعتنا من السوق؟

في زمنٍ تُباع فيه الرموز وتُشترى فيه الهويات، لم يعد الاستهلاك مجرد تلبية لحاجة، بل أصبح لغةً اجتماعية تُعرّفنا وتُصنّفنا. من الهاتف الذكي إلى السروال الممزق، تتجلى مفارقة العصر: أن ندفع لنبدو وكأننا نرفض المادية، بينما نغرق في أقساطها.
(1) حين تصبح السلعة مرآة للذات
في كل مرة أذهب فيها إلى السوق أو أتصفح واجهات المتاجر على الإنترنت، أتساءل: لماذا ندفع ثمنًا باهظًا لشيء وظيفته الأساسية يمكن أن تؤديها قطعة أرخص بكثير؟
هذا السؤال أخذ بُعداً شخصياً أخيراً، عندما فوجئتُ بزميل لي – أعرف جيداً إمكاناته المادية المحدودة – يحمل أحدث إصدار من هاتف «آي فون» بمواصفات تفوق بكثير احتياجاته اليومية. وعندما سألته عنه، كان جوابه صادماً: لقد اقترض مبلغاً ضخماً لشرائه، ليكبل نفسه سنوات طويلة من الأقساط والسداد.
قد يرى البعض أن قرار زميلي هو مجرد سوء تدبير فردي أو تهور شخصي. لكن الحقيقة أعقد بكثير. إنها ليست دوافع فردية فقط، بل هي انعكاس لقيمنا الاجتماعية. هذا السلوك لا يمكن تفسيره إلا إذا أدركنا أن البيئة الاجتماعية هي التي تفرض علينا قواعد اللعبة. نحن نعيش في مجتمع جعل من المظاهر والماركات القيمة الأهم في التزكية الاجتماعية. وهنا يكمن جوهر المشكلة: الاستهلاك لم يعد لتلبية الحاجات، بل أصبح نظاماً اجتماعياً قائماً على الرموز.
(2) من الفقر الى رمز التمرد
لنعُدْ قليلاً إلى قصة أخرى، لا تقل غرابة عن قصة زميلنا وهاتفه. ففي الشارع، نرى شباباً يرتدون سراويل ممزقة، ليست ممزقة بسبب العمل أو الاهتراء، بل ممزقة عمداً وتباع بثمن باهظ.
لطالما وقفتُ حائرًا أمام هذه الظاهرة. لم تكن حيرتي من منطلق أخلاقي، فمن طبع الشباب التمرد ومخالفة المألوف، بل من منظور تأملي: كيف تتحول الرموز من دلالاتها الأصلية إلى نقيضها؟ وكيف نعيش في عالمٍ يُباع فيه التمرّد نفسه في الأسواق؟
لنعُدْ قليلاً إلى الجذور. ففي القرن التاسع عشر، كانت السراويل الممزقة علامة على الفقر المدقع والعمل الشاق في مناجم الفحم ومصانع النسيج. كانت التمزقات شهادة حقيقية على القهر الاقتصادي والطبقي.
لكن التحول الكبير بدأ في سبعينيات القرن الماضي، عندما احتضنتها ثقافة «البانك – Punk» كتعبير عن الغضب من النظام الرأسمالي. كانت التمزقات آنذاك إعلان تمرد حقيقي – قطع القماش الممزقة كرصاصات موجهة إلى قلب المجتمع الاستهلاكي.
غير أن المفارقة لم تتأخر كثيرًا. ففي الثمانينيات، اكتشف المصممون العالميون قوة هذه الرموز. «جان بول غوتييه» و«فيفيان ويستوود» قدّما التمزق كعمل فني متعمد، محولين رمز الفقر إلى دليل على الثراء الثقافي. وهنا اكتملت دائرة «الاستعمار الرمزي»، حيث يتحول أثر الكدح إلى علامة رفاهية، ويتحوّل التمرّد إلى سلعة. إنها «المفارقة الوجودية» للعصر الاستهلاكي.. أن تدفع لتبدو كما لو أنك ترفض المادية!
وفي بعض السياقات العربية، تحوّلت رموز التمرد إلى موضة شبابية تُباع في الأسواق، دون أن تُناقش جذورها أو تُستعاد دلالاتها. لم تعد التمزقات تعني الغضب أو الرفض، بل أصبحت جزءًا من عرض بصري يُستهلك كما تُستهلك أي ماركة أخرى.
وهنا يتضح جوهر المشكلة: إذا كنت تدفع لتشتري شيئًا يبدو وكأنه رفض للمال والمادية، فأنت لم تتمرد، بل فقط اشتريت «نسخة مزيفة من التمرد»، أو «هوية جاهزة» تُرضي نظرة الآخرين، وهذا هو المنطق الذي يدفعنا جميعًا لتحمّل الديون، وشراء سلع تفوق حاجتنا بكثير.
(3) هل يمكن شراء من نكون؟
لكي نفهم لماذا يختار زميلنا عبء الديون على راحة البال، يجب أن ندرك أننا نعيش في عصر لا نعرف فيه من نحن، فبدلاً من بناء هويتنا من الداخل (الأفكار – القيم)، نحاول «شراءها جاهزة من الخارج».
في كتابه «مجتمع الاستهلاك»، يرى جان بودريار أننا لا نستهلك الأشياء لذاتها، بل نستهلك المعاني والرموز المرتبطة بها. أنت لا تشتري هاتفًا فحسب، بل تشتري رمزًا للحداثة والاتصال والانتماء إلى مجموعة معينة. الاستهلاك هو نظام لغوي (لغة) نستخدمها للتواصل مع الآخرين، وتعريف أنفسنا.
(4) السلعة لم تعد تخدمنا، بل صارت هي من تُعرّفنا
الـ«آي فون» الأخير، أو السيارة الفخمة، أو الماركة المعينة، كلها تصبح بمثابة «شهادات تزكية اجتماعية». أنت لا تشتري ساعة، بل تشتري قصة النجاح والذوق التي ترويها تلك الساعة لمن يراك. إنها محاولة سريعة لملء الفراغ الداخلي.
لهذا، فإن الخوف من أن يُنظر إليك على أنك «متأخر» أو «غير مواكب» يصبح أقوى بكثير من الخوف من الديون. نحن نعيش في مجتمع يعاقبك إذا لم تظهر بمظهر «الناجح» حتى لو كنت غارقاً في الديون. في هذا النظام، يتجسد «وهم التواصل»: نحن لا نتواصل بهوياتنا الحقيقية، بل نتواصل بـ«أقنعتنا المشتراة من المتاجر».
(5) بين فقدان الذات وتشوّه التواصل
ما هي التكلفة الحقيقية لعملية شراء الهوية هذه؟ الأمر يتعلق بخسارة أعمق، أو ما يمكن أن نسميه «الضياع المزدوج»:
• نبتعد عن ذواتنا الحقيقية: نصبح نسخة منقوصة من الآخرين عندما نخصص طاقتنا وجهدنا ومالنا، لتأكيد هوية مصطنعة.
• نبتعد عن الآخرين: عندما يصبح الجميع يتحدث بلغة الماركات والمظاهر، يتحول التواصل إلى مسابقة سطحية.
كل شيء يتم تفكيكه وإعادة تركيبه ليس وفقاً لحاجتنا، بل وفقاً لمنطق السوق.. السوق يريد أن يبيعنا فكرة، حتى لو كانت فكرة التمرد عليه!
(6) التمرّد الذي لا يُباع
التمرّد الحقيقي لم يعد في شكل الملابس، بل هو أن تدرك أن حريتك لا تقاس بما ترتديه، بل بقدرتك على «التفكير النقدي» و«الاختيار الواعي». قبل أن تشتري، اسأل نفسك: هل أنا بحاجة لهذا الشيء فعلاً؟ هل أشتري هذا لأجل نفسي أم لأجل رأي الآخرين في؟
نحن أمام معركة وجودية، معركة لإثبات وجودنا خارج منطق السوق. قد نخسر جولات، ولكن الوعي وحده هو الذي يمكن أن يفتح لنا نافذة نحو التحرر الحقيقي. وهذا الوعي لا يأتي من فراغ، بل من مساءلة عميقة لما يعنيه أن نكون، كما طرحه إريك فروم وزيغمونت باومان وجان بودريار في تأملاتهم حول الذات والهوية.
(7) في ملامح الهاتف: هل ما زلنا نختار؟
أعود إلى زميلي، الذي سدّد قسطًا طويلًا ليحمل هويّةً مُختصرة في شاشةٍ باردة. هل أعاد الهاتف له ذاتَه أم منحه قناعًا جديدًا؟ السؤال الأخير ليس عن الحكم عليه، بل عن المدينة التي تنتج هذه الحاجة. إن أردنا أن نحرّر التمرّد من سوق الصور، فالأمر يبدأ بصمتٍ قصير قبل كل شراء: دقيقة تستعيد فيها القدرة على الاختيار، وتمنحك فرصة أن تكون أنت لا أن تكون صورةً متاحة للبيع.
وفي الختام، يبرز السؤال الوجودي العظيم الذي يجب أن نواجه به منطق السوق: إذا كنت تشتري أشياء لا تحتاجها بأموال لا تملكها لإرضاء أشخاص لا تعرفهم، فهل مازلت سيدا لقراراتك؟
(8) استعادة الذات من براثن السوق
في عالمٍ تُباع فيه الرموز وتُصاغ فيه الهويات على رفوف المتاجر، تتقاطع رؤى ثلاثة مفكرين، لتكشف لنا جوهر المأزق الوجودي، إذ يرى فروم أن الإنسان المعاصر قد استبدل «الامتلاك» بـ«الكينونة»، فصار يقيس ذاته بما يملك لا بما يشعر أو يفكر. أما باومان فيحذر من «الهوية السائلة» التي تتبدل بتبدل الموضة، حيث لا تُبنى الهوية بل تُستهلك، وتُعاد صياغتها وفق إيقاع السوق. ويأتي بودريار ليكشف أن الاستهلاك لم يعد تلبيةً لحاجة، بل لغةً رمزية نُعرّف بها أنفسنا أمام الآخرين.
في هذا الثالوث، تتجلى المفارقة: نحن نشتري كي نكون، لكننا نفقد أنفسنا في عملية الشراء. نستهلك رموزًا لا تعكسنا، بل تعكس ما يُراد لنا أن نكونه. وهكذا، يتحول التمرّد إلى سلعة، والهوية إلى قناع، والذات إلى شاشةٍ تُضيء فقط حين يراها الآخرون.
لكن وسط هذا الضجيج، يظل هناك هامشٌ صغير للحرية: لحظة صمت قبل كل شراء، سؤال بسيط قبل كل قرار، ووعيٌ متأمل يعيدنا إلى أنفسنا. ففي مواجهة السوق، لا يكفي أن نرفض، بل أن نُعيد تعريف ما يعنيه أن نكون.
