قراءات عميقة بين سردية دوستويفسكي و«تشريح جثة الاستعمار»

قراءات عميقة بين سردية دوستويفسكي و«تشريح جثة الاستعمار»
طرابلس – بوابة الوسط الجمعة 17 أكتوبر 2025, 07:24 صباحا
«في العادة أصعد على ظهر الكلمات نحو المقصد أو المعني أو حتى النهاية مع المؤلف، ولكن في هذه الرواية العميقة شعرت بنفسي وحيدة تزدحم الأسئلة في فمي».. بهذه الكلمات استهلت الشاعرة والمترجمة مريم سلامة ذكرياتها مع القراءة والكتب، وهي تصف لحظة احتضانها، للمرة الأولى، رواية «الجريمة والعقاب» للأديب الروسي العالمي فيودور دوستويفسكي.
كان ذلك في أمسية أدبية، ضمن سلسلة «كتاب في الذاكرة»، نظمتها الجمعية الليبية للآداب والفنون بالقبة الفلكية برعاية إذاعة طرابلس المحلية، الثلاثاء، وبمشاركة الكاتب والشاعر عبدالحكيم كشاد، وأدارتها الكاتبة والصحفية فتحية الجديدي.
بين بطرسبرغ والبدري
تقول مريم سلامة: «كتاب ضخم لم أجرؤ على قراءته فور الحصول عليه، بل تصفحته مرارا وقلبته كثيرا، قبل أن أقبل عليه بهمة يداهمها الكثير من فعل المكابدة»، وهنا تجد الكاتبة نفسها مندفعة إلى فعل المقارنة مع مدينة في مطلع ثمانينات القرن التاسع عشر(بطرسبرغ) وقرية في مطلع ثمانينات القرن العشرين (البدري)، حيث الخواء والفراغ والبساطة والضجر.
– للاطلاع على العدد «517» من جريدة «الوسط».. اضغط هنا
تمضي سلامة في وصف النقلات النفسية والفكرية المنبعثة من أثر اندماجها في النص، حيث قادتها الأسئلة المتولدة عن الرواية إلى إعادة فهم قيم الخير والعدالة والتفكر في سريالية الحياة وتناقضاتها، خصوصا في مواقف وأحداث تغاير منطق الأشياء، منها من يضع قوة القانون في يد الظلم، فيبطش باسم الحق، لذلك تتجه مستندة إلى وعيها في قراءتها الثانية للرواية إلى معرفة أن الجريمة ليست موت العجوز المرابية في النص، بل موت الإنسانية، ولم يكن العقاب هو الحكم بالسجن، بل صحوة العقل في وجه الاستبداد. وبإدراكها من هو القاتل الحقيقي، لم تعد الكاتبة تخجل من تعاطفها مع المجرم راسكولنيكوف، قاتل النساء المسكينات، كما في القراءة الأولى.
وأضافت: «لقد جعلتني الرغبة الملحة في إيجاد مكان لأسئلتي القديمة تضع فيه بيوضها، وأتأنى في مرافقتي لهذا الشاب منذ ظهوره في السطور الأولى إلى دخوله شقة العجوز في الفصل الخامس أو السادس، ما سمح بأن أرى عزلته قبل فقره، وقلقه قبل خوفه، ورشده قبل حماقته، وخيره قبل شره».
وبذلك، فالكاتبة جالت عبر إدراكها ببصيرة القارئ في تفاصيل هذه الخلفيات، حيث عاد البطل إلى الناس الذين فر منهم عندما كان يريد النجاة بنفسه من هرائهم وغبائهم وريائهم، ويتفرغ للوعي بعالمه الجواني قبل الخارجي، سواء في طلب العلم أو في كتابة ذلك المقال المفصلي عن الناس العاديين وغير العاديين. وعندما أثقله المنحدر الذي كان على وشك السقوط فيه (نية القتل)، ونأى عنه الفهم في صحاري موحشة، عاد إلى مؤانسة الناس في الشارع المكتظ والخمارة الرخيصة والعائلة المتداعية ورسالة أمه وحنو الخادمة في البيت الذي يعيش في إحدى غرفه بالأجرة.
رواية لإنسان مختلف
تلفت الكاتبة إلى أن «هذه رواية مكتوبة لإنسان مختلف، ولكن الإنسان المختلف لا يكون إلا بعد قراءة هذه الرواية، لذلك نعيد قراءتها»، والسبب من وجهة نظرها يرجع إلى أننا نبحث عن معادلة صعبة في فهم الإنسان. لكن دوستويفسكي، بحسب تعبيرها، لا يرى أهمية في الفهم، بل في الإيمان، إذ «يتخذ الانسان قراره، ويتحمل النتائج، وقد يتخطى عقوبة القانون الوضعي، ولكن ليس بإمكانه تخطي ما تضعه نفسه من عقوبات تقض عليه مضجعه، وتزلزل كيانه، وتضعه منتبها أمام الخيط الرفيع بين الإنسان والوحش».
من جهته، تناول الكاتب والشاعر عبدالحكيم كشاد كتاب «تشريح جثة الاستعمار»، لمؤلفه المفكر الفرنسي «غي دو بوشير»، فاعتبر الكتاب تصويرا بالأشعة لأوروبا المستعمرة، حيث «كان صوت أوروبا الصوت الوحيد المدوي منذ ألفي عام». ومع أن بوشير يري أن الاستعمار هو التحرر من الاستعمار، يجد أن الاستعمار أخذ وجهات أخرى، حيث يقول: «التخلص من الاستعمار لا يعني دفن جثته فقط، بل التخلص من تبعاته وتفكيكه بالعقل، وهو ما لم يحدث».
ويتوقف كشاد عند الفصل الأول من كتاب بوشير، حيث يتجه المؤلف تحت عنوان «الأساس والبنيان» إلى تعريف مفردة الاستعمار، ثم انحرافها فيما بعد عن المعني الأول الذي كان شائعا، كونها كلمة تعني المستعمرة (كولونيا) التي تسلم للفلاح، وتكون موصولة بالوطن، ويأتي المعني الآخر انتقالا من فعل التأسيس إلى فعل الاستعمار، أي من فعل الإنشاء إلى فعل التنظيم والتنمية، والعامل الاقتصادي القائم عليهما هو الأساس الحقيقي.
الاستعمار وفعل السيطرة
يذكر كشاد أن الكتاب يوضح أن ما كان يفعله الأوائل لم يكن بوعي، وما حدث هو مجرد مغامرات. ففي حين أن فلاسفة القرن الثامن عشر هم من أدركوا هذا الفعل، ومدي التطور الذي حدث بعد ذلك، خاصة منذ الثورة الفرنسية، تزامن فعل يستعمر مع السيطرة، ومن هنا بدأت ظاهرة الاستعمار تأخذ شكل السيطرة، والفعل أصبح له وعاء يدرك من يقوم به وما يفعل بالضبط، وتشكلت بالتالي مؤسساته وتنظيماته التي عرف بها.
– للاطلاع على العدد «517» من جريدة «الوسط».. اضغط هنا
وعلي سبيل المقارنة، يوضح كشاد، بناء علي تحليلات «دي بوشير»، أن المقارنة بين الاستعمار والإمبريالية غير واردة هنا باعتبار أن نظرة الاستعمار ترتبط بالقهر والقمع، وهو يأتي من أقلية تفرض قانونها ضد الأغلبية. أما بالنسبة للإمبريالية وإقامة الإمبراطوريات الكبري فهي غالبا ما تتحقق بالجيوش الكاملة، وهو الترابط الذي يحدث بين الشعوب القاهرة والمقهورة. من هنا يتسم الاستعمار بالعنصرية، ومن ثم ظاهرة التشيئ، أي النظرة إلى المستعمر علي أنه شيء لا يُعترف به، وهو شيء دون الإنسان، وهو اختلاف بين، في الوقت الذي تعترف فيه الإمبريالية بالفارق والاختلاف للشعوب التي تغزوها.
لشاعر عبدالحكيم كشاد خلال حديثه في الأمسية، 14 أكتوبر 2025. (الإنترنت)