«صناديق البلديات».. هل تفتح الطريق إلى الانتخابات العامة في ليبيا؟

«صناديق البلديات».. هل تفتح الطريق إلى الانتخابات العامة في ليبيا؟
القاهرة – بوابة الوسط: محمود غريب السبت 15 نوفمبر 2025, 10:52 صباحا
في وقت يترقب فيه الليبيون خطوة حاسمة تقود إلى الاستقرار وتوحيد المؤسسات، تستمر المرحلة الثالثة من انتخابات المجالس البلدية، وسط اهتمام يعكس شغفاً متزايداً للعودة إلى صناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم، فهل تمهّد هذه الانتخابات الطريق لإجراء الاستحقاقات العامة المنتظرة، أم أنها مجرد اختبار محدود لقدرة المؤسسات على إدارة العملية الانتخابية؟
منذ عام 2021، تعثرت ليبيا في مسار إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وسط انقسامات بين الأطراف السياسية. وأدت الخلافات حول القوانين الانتخابية وشروط الترشح وغيرها إلى تأجيل الاستحقاقات.
«البلديات» اختبار أولي لتنظيم الاستحقاقات الكبرى
وزاد هذا التعطل من حالة الإحباط الشعبي، ورفع من وتيرة التساؤلات حول مستقبل العملية الديمقراطية في البلاد، ما جعل أي انتخابات بلدية تُنظر إليها باعتبارها اختبارًا أوليًا لقدرة المؤسسات على تنظيم الاستحقاقات الكبرى للعملية الانتخابية.
وخلال مرحلتيْها السابقتين، أعلنت المفوضية الوطنية العليا عن مسارات إيجابية رافقت الانتخابات البلدية، على الرغم من بعض الخروقات، بدءًا من توزيع بطاقات الناخبين وتحضير مراكز الاقتراع، في إطار جدول زمني، مع تأكيد دورها المركزي في تنظيم العملية الانتخابية، بالتنسيق مع وزارة الحكم المحلي لضمان تلاقي الصلاحيات الفنية مع الدعم الإداري للبلديات، ما يسمح بوضع البُنى التحتية المطلوبة من مراكز اقتراع، وتسجيل الناخبين، وتوزيع بطاقات، وإدارة الحملات التوعوية.
الشراكة بين «المفوضية» والسلطة التنفيذية
وقد عبّرت المفوضية عن التزامها بتنفيذ العملية «بإرادة وطنية وبدون تدخلات سياسية»، مؤكدة أن الشراكة مع السلطة التنفيذية، سواء الحكم المحلي أو الداخلية، تأتي لدعم بلورة «بيئة محلية صالحة لممارسة الديمقراطية».
فضلاً عن ذلك، تحظى العملية بدعم من بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا وشركاء دوليين آخرين، حيث رحّبت البعثة بالانتخابات البلدية واعتبرتها خطوة نحو تعزيز الشفافية والمشاركة المجتمعية، ودعت كافة الجهات إلى المساهمة في إزالة العوائق أمام استكمالها في كل البلديات.
مسار الانتخابات البلدية في ليبيا
منذ عام 2011 شهدت ليبيا مسارًا متقلبًا في بناء مؤسساتها المحلية، بدأ بخطوات طموحة نحو تأسيس نظام للإدارة المحلية، وسط ظروف سياسية وأمنية معقدة. ففي عام 2012 جرى إصدار قانون بهدف تأسيس البلديات وتفعيل دورها الخدمي والتنظيمي، غير أن التجربة وُلدت في ظل تحديات جسيمة، ما جعل تطبيق القانون يواجه عقبات على الأرض.
وفي عام 2013، أطلقت ليبيا أول انتخابات بلدية كمرحلة تجريبية شملت أربع بلديات فقط، في محاولة لاختبار جاهزية المؤسسات والإجراءات، وجاءت التجربة وسط ترقب شعبي واسع ومخاوف من تعثر المسار، إلا أنها شكلت خطوة أولى في طريق ترسيخ ثقافة الانتخابات المحلية.
أما عام 2014 فكان نقطة توسع مهمة، إذ استُكملت العملية الانتخابية وشهدت البلاد انتخاب المجالس البلدية في 91 بلدية جديدة، وهو ما مثّل اتساعًا في نطاق المشاركة الشعبية، وتأكيدًا على الرغبة في تمكين السلطات المحلية رغم الأوضاع غير المستقرة.
وخلال الفترة من عام 2018 إلى عام 2023، أُجريت انتخابات بلدية متفرقة في بعض المدن بعد انتهاء ولاية مجالسها المنتخبة، في وقت كانت فيه البلاد تعاني من الانقسام المؤسسي، مما أدى إلى تفاوت في وتيرة إجراء الانتخابات بين المناطق.
وفي عامي 2024 و2025، شهدت ليبيا مرحلة جديدة أكثر انتظامًا، مع انطلاق انتخابات بلدية متزامنة على مراحل، بدأت بالمرحلة الأولى ووصلت إلى المرحلة الثالثة، في خطوة تعكس توجهًا لإعادة توحيد العملية الانتخابية وتفعيل الإدارة المحلية على مستوى البلاد.
بروفة انتخابية
رئيس لجنة الأمن القومي بالمؤتمر الوطني العام السابق عبدالمنعم حسين اليسير، يرى في الانتخابات البلدية الحالية رسالة أساسية مفادها تمسك الليبيين بصندوق الاقتراع، لكن يعتقد أنها «ليست مؤشرًا كافيًا على تحسن المناخ السياسي»، إذ قال إنها «خطوة إيجابية هشة» ما لم تُدعم بترتيبات أمنية جادة وتنفيذ فعلي لوقف إطلاق النار وتحييد نفوذ السلاح عن العملية الانتخابية.
وأشار اليسير في تصريحات إلى «بوابة الوسط» إلى أن التجربة الانتخابية أثبتت قدرة المؤسسات على إدارة انتخابات نزيهة من الناحية التقنية في بعض المدن، لكنها كشفت هشاشة البيئة الأمنية مع وجود حالات ضغط وعرقلة، لافتا إلى أن المفوضية الوطنية العليا قادرة على تنظيم الانتخابات متى ما توافرت الحماية، والتمويل المستقل، والإطار القانوني الموحد.
وخلال هذه التجربة الأحدث، شهدت الانتخابات البلدية تفاعلاً ملحوظاً من الناخبين في مختلف مراحلها، جاءت أعلاها في المجموعة الأولى بنسبة مشاركة بلغت 74% تراجعت إلى 72.41% في المجموعة الثانية، ثم 68% في المجموعة الثالثة، وفق بيانات المفوضية الوطنية العليا للانتخابات.
– «المفوضية» تعلن النتائج الأولية لانتخابات 16 مجلسا بلديا
– المفوضية: 68% نسبة المشاركة الأولية في انتخابات البلديات
– البعثة الأممية ترحب باتفاق مفوضية الانتخابات والجهات المعنية على استئناف الاقتراع البلدي
– «وسط الخبر» يناقش: هل تقود الانتخابات البلدية إلى انفراج في الأزمة الليبية؟
ورغم الزخم الإيجابي، واجهت العملية الانتخابية تحديات ميدانية وأمنية في بعض المناطق، من بينها صعوبات لوجستية في توزيع المواد الانتخابية وتأخر فتح بعض المراكز بسبب الظروف الأمنية أو ضعف البنية التحتية. كما برزت تحديات تتعلق بـضعف المشاركة النسائية في بعض البلديات، إلى جانب الخلافات المحلية حول الترشح وإدارة الحملات الانتخابية، ما دفع المفوضية إلى تعزيز التنسيق مع الجهات الأمنية والإدارية لتوفير بيئة آمنة وضمان شفافية العملية الانتخابية في مراحلها المقبلة.
المسماري: خلل إداري لا يعكس تطوراً ديمقراطياً
أستاذ القانون وعضو هيئة التدريس بجامعة عمر المختار، راقي المسماري، يرى أن التوسع في التوزيع الجغرافي لرقعة البلديات في ليبيا، الذي تجاوز عددها أكثر من 150 بلدية، أدى إلى ترسيخ الوحدات الإدارية على أسس مناطقية وقبلية، مشيراً إلى أن هذا الخلل الإداري «لا يعكس تطوراً ديمقراطياً حقيقياً».
وأوضح المسماري في تصريحات إلى «بوابة الوسط» أن المجتمع الليبي ما زال مرتبطاً بانتماءاته القبلية، وأن ذلك ينعكس بوضوح على المشهد الانتخابي، حيث تشهد الانتخابات البلدية عزوفاً شديداً من الناخبين، ليس فقط عن المشاركة، بل حتى عن التسجيل في كشوفات الناخبين، مشيراً إلى أن «الحسم غالباً ما يكون لصالح المرشح المحسوب على القبيلة داخل النطاق الجغرافي».
وعن إمكانية أن تكون هذه الانتخابات بروفة للانتخابات العامة، أكد المسماري أن البعد القبلي ما زال مترسخاً، وأن الديمقراطية لم تتبلور بعدُ، مشدداً على أن «الخلل الإداري في تقسيم البلديات لا يعطي مؤشراً إيجابياً على نجاح الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية المقبلة».
وأضاف أن «الأزمة في ليبيا ليست سياسية بقدر ما هي أمنية»، موضحاً أن «غياب أداة تطبيق القانون وانتشار السلاح» هما السبب الرئيس في التعثر. وقال: «لدينا قوانين تنظم كل جوانب الحياة، ولدينا قضاء، لكن في غياب أدوات تنفيذ الأحكام يفقد القانون هيبته، ويحدث الخلل».
ولم تخلُ الانتخابات البلدية من خروقات واعتداءات وتبادل الاتهامات السياسية، أدت إلى توقف العملية في عدد من بلديات شرق وجنوب البلاد، بالإضافة إلى بلدات في المنطقة الغربية، قبل أن يجرى تدارك الأمر وإجراء الاقتراع في بلديات الزاوية والساحل الغربي، والتحضير لإجراءات مماثلة في الشرق.
الانتخابات البلدية اختبار حياد ومصداقية
وحول تأثير الانتخابات على الشارع الليبي، لفت عبدالمنعم اليسير إلى أن الانتخابات البلدية بالنسبة للشارع هي اختبار مصداقية، ولدى بعض القوى النافذة تُستَخدم كإجراء شكلي لإظهار نشاط مؤسسي، لكنه رأى الأهم أن تُعامل كاختبار حياد للأجهزة الأمنية والإدارية، لا كإجراء بروتوكولي.
وتطرق إلى التحديات الكبرى التي تواجه الانتخابات العامة الرئاسية والبرلمانية، وأبرزها تدخل التشكيلات المسلحة وغياب حياد الأمن، ازدواجية الأطر القانونية والمؤسساتية، وتسييس الإدارة والرقابة وضعف اللوجستيات، مقترحًا حلولًا تشمل تنفيذ مسار (5+5) الأمني ووقف إطلاق النار، وتوحيد الإطار الانتخابي، وإعلان جدول زمني ملزم، وميثاق سلوك للمرشحين والقوى، ورقابة عربية وأفريقية وأممية، مع فرض عقوبات على المعرقلين.
وأشار اليسير إلى أن الانتخابات البلدية تشكل بروفة لوجستية وأمنية مهمة، لكنها غير كافية وحدها لضمان نجاح انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة، والتي تحتاج إلى حماية مراكز الاقتراع، وحياد الأجهزة، وضمان التسليم السلمي للسلطة، مؤكداً أن النجاح في الانتخابات المحلية قد يعيد جزءًا من الثقة بشرط وضع خارطة طريق واضحة تشمل انتخابات شاملة رئاسية وبرلمانية متزامنة، دون إقصاء ضمن مصالحة وطنية شاملة وضمانات عربية وأفريقية وقرار من مجلس الأمن يُلزم بحماية المسار واحترام نتائجه.
وختم اليسير بقوله: «لا جديد حقيقي ما لم نُغيّر المنهج: الأمن أولًا، ثم انتخابات شاملة بضمانات، بعيدًا عن المحاصصات»، داعيًا إلى تبني مبادرة السلام والوفاق الوطني التي يقترحها، والتي ترتكز على مسار ليبي خالص بمشاركة كل الكيانات الرسمية، وحوار داخلي بمراقبة دولية، يركِّز على المصالحة وترتيبات الأمن وتوحيد المؤسسات وصولاً إلى انتخابات ملزمة النتائج.
«واجب إداري والتزام اجتماعي»
لكن أستاذ القانون وعضو هيئة التدريس بجامعة عمر المختار، راقي المسماري، رأى أن الانتخابات البلدية لا تعكس تحسناً في المزاج السياسي أو تقدماً في الأجواء الديمقراطية، واصفاً إياها بأنها «مجرد واجب إداري والتزام اجتماعي»، لافتاً إلى أن البلديات، رغم كونها وحدات إدارية مستقلة، تبقى «تحت سيطرة الحكومات المركزية»، إذ تعتمد ميزانياتها التشغيلية والتنموية على مواقفها من السلطة التنفيذية.
وختم بالقول إن القوى المدنية والسياسية لا تعوّل كثيراً على الانتخابات البلدية، لأن «مدخلاتها يشوبها الخلل»، مشيراً إلى أن بعض البلديات أجريت فيها الانتخابات بـ175 ناخب يحق لهم التصويت!
