صورة لبلاد الرجال

منصور بوشناف

صورة ليبيا كمنفى رسمتها حياة البادية والتصحر والترحال الدائم، حتى بدا الوطن «رحيلا دائما من منفى إلى منفى» ثم كانت صورة ليبيا كمنفى وجودي بعد النفط وتشكل الدولة والانفتاح على ثقافات العالم ومشاريع النهضة لجيل من الكتاب، ثم كان التطلع والرحيل إلى أوروبا والاندماج في الحياة الأوروبية وتحقيق الحرية الفردية ليظهر أدب المنفيين الليبيين مع تسعينيات القرن الماضي، الذي صور في غالبه ليبيا من المنفى الأوروبي، فكتب هشام مطر روايته الأولى والمهمة «في بلاد الرجال» التي صور فيها ليبيا من منفاه بعيني طفل في التاسعة من عمره عاش طفولة الخوف من الشارع والمدينة والسلطة فبدت طرابلس كمعتقل كبير للطفولة والإنسان.
وكتب مجاهد البوسيفي روايته «آزاتسي» أو «معسكر اللجوء» حيث تظهر صورة طرابلس وليبيا كوطن للعبث والمهزلة والقمع والكوميديا السوداء، ونشر عمر الكدي من منفاه في هولندا مجموعة من القصص ككوميديا سوداء تجري في ليبيا مثل قصة الكلب رمضان وشطرنج جماهيري، حيث تبدو ليبيا بلدا يحكمه الجنون الدامي والمهزلة القاتلة.

من المنفى تبدو ليبيا معتقلا مرعبا ومسرح مهازل دامية ولكنها أيضا البلد الحلم ومحضن المستقبل، إن الحنين إلى كل ما فيها يطغى كما نرى ذلك في أعمال جمعة بوكليب وعلاقته الملتبسة والمرتبكة بطرابلس وليبيا السجن ومراتع الطفولة والصبا.
في كتاب «مناكفات الربع الأخير» لجمعة بوكليب، تبدو طرابلس متربعة في الزمان، متربعة في القلب، منتشرة عبر الروح والمدن الأخرى، تبدو طرابلس هي «الذات» ذات الكاتب ووجدانه وتجربته الروحية الناجزة، لتبدو قصص هذه المجموعة جلسة ليس لتحضير الروح بل «حضرة» صوفية وجودية لطرد الأطياف والروح، إنها نصوص «كاثارسيس» للتطهر من أدران الروح إنها معركة الاستقلال التي تخوضها ذات الكاتب عن المكان والزمان، إنها معركة الفطام الفاشلة على أية حال.
معركة الاستقلال والفطام، الاستقلال كخلاص لإنجاز مشروع الذات الوجودي الخاص وآلام الفطام التي يخوضها ويكتبها بوكليب عبر هذه المجموعة القصصية تبدو نتيجة لتجربة بوكليب في طرابلس وليبيا، حيث طرابلس الرحم والأم ومرابع الطفولة والصبا والأحلام والآمال وطرابلس أيضا الجحيم والسجن وموت الأحلام والآمال، إن طرابلس الرحم والأم لا تلقي بجنينها «الكاتب» إلى الحياة بل إلى السجن لتذوي الآمال والشباب ثم لتستقبله وقد شاخت وترهلت وذوت خدود بناتها وغدت أرضا خرابا. لتقذف به إلى المنفى، ولكن ورغم كل هذا تظل طرابلس مرآة بوكليب التي يرى فيها ذاته والمدن والنساء والعالم. فحتى البر الإنجليزي لا يظهر إلا عبر المرآة الطرابلسية.
عبر ضمير السارد يتوحد السارد مع طرابلس فهو أنا وأنت وهو، لحظات الاقتراب «أنت» ولحظات الهروب «أنا» ولحظات اليأس «هو».
تتجهز السفن للمغادرة في أحلامه، ويقام مهرجان الرحيل، وتتوق الروح بعد اليأس إلى شاطئ آخر بعيدا عن الرحم والأم، بعيدا عن طرابلس وبحثا عن «كوة للتنفس».
رحلة الاغتراب والمنفى التي تخوضها قصص هذه المجموعة القصصية تحيل مدن المنفى إلى مدن لا مرئية يبحر عبرها هذا «اليوليسس» الطرابلسي هربا من طرابلس المرئية ودائمة الحضور حيثما حل.

المنفى والابتعاد أو الهروب من طرابلس تبدو في هذه القصص عذابات وآلام فطام شاقة، رحلة ابتعاد ومحاولة يائسة للنسيان، محاولة للولادة من جديد في بيئة أخرى ومدينة أخرى غير طرابلس التي لم تعد طرابلس التي شكلت وسكنت وجدان بوكليب طفولة وشبابا.

«هشام مطر» كاتب المنفى الليبي بامتياز، منذ روايته «في بلد الرجال ثم تشريح الإخفاء والعودة» حيث يتجذر المنفى وجدانا ولغة.
عبر «تشريح الإخفاء» و«العودة» يكتب هشام مطر «أوديسا» رحلة الابن بحثا عن الأب الذي اختفى في الوطن، الذي ضاع في نهر النسيان الليبي «الليثيوس» كما تقول أوديسا هوميروس وليس في بحار المنفى.

إنها تجربة تطواف «ستيفان ديدالوس» لجيمس جويس في العودة والبحث.

في روايته الأخيرة «أصدقائي» يتأمل هشام مطر تجربة ثلاثة أصدقاء ليبيين في المنفى، يتأمل المنفى المكان، والأهم يتأمل الصداقة بين رجال متشابهين ومختلفين في نفس الوقت، صداقة تتجلى له عميقة وحقيقية في لحظة الفراق والوداع الأخير حيث تبدو تلك اللحظة ليس النهاية لتلك الصداقة بل بدايتها، ويتلخص زمنها وزمن تلك الصداقة «ذي العقدين من السنوات» وزمن الرواية في ساعتين من التطواف الديدالوسي «كما تطواف ستيفان ديدالوس في رواية يوليسيس لجميس جويس» عبر شوارع المنفى وتطواف الأصدقاء عبر ليبيا ولندن وباريس، تتمدد الساعتان لتحضنا عقدين من زمن المنفى وتتقلص الأمكنة لتكون لوحات صغيرة معلقة على جدار الذاكرة، في لحظة البداية، لحظة الكتابة تلك تبدأ تجربة الصداقة في التشكل والنمو، تولد وتحيا في النص، فالنص هنا هو التجربة الحقيقية للوجود.

تحين ساعة الوجود لحظة الفراق، يتفرق الأصدقاء الثلاثة، أحدهم نحو الماضي نحو ليبيا، والآخر نحو المستقبل أمريكا ويبقى السارد في الحاضر، في «النص» في تطواف ليلي لا يريد له أن ينتهي ولا أن يغادره.

الأصدقاء الثلاثة كانوا قد تورطوا في المنفى، لم يختره أي منهم، فلم يأتوا مهاجرين ولا منفيين بل للدراسة ثم العودة إلى ليبيا ولكن اعتقال الطلبة وتعذيبهم وإعدام بعضهم، دفعهم للمشاركة في مظاهرة احتجاج أمام سفارة بلادهم حيث تطلق النار عليهم من مبنى السفارة ويصاب اثنان منهم مما يجعلهم مطلوبين لأجهزة الوطن الأمنية ويضطرون جميعا لدخول عالم المنفى والمطاردة، حيث يتحول المنفى إلى ساحة إعدام لهم تطاردهم فيها فرق الموت عبر أزقة المنفى التي أخذت تضيق عليهم وبهم.
يقتل في الشارع مذيع البي بي سي الليبي محمد مصطفى رمضان الذي عرفه السارد وهو يقرأ قصة لكاتب ليبي صار بعد سنوات صديقة الذي ودعه منذ لحظات ليذهب إلى أمريكا.

يغتال اللبناني «سليم اللوزي» في نفس الوقت ليصبح الوطن العربي كله ساحة اغتيالات وفرق موت تطارد العرب في كل بقاع العالم.

رواية «أصدقائي» لهشام مطر تغوص في تجربة المنفى بمعناه الوجودي، تتأمل تفاصيله وتناقضاته، ليكون شكلا آخر للوجود الإنساني في هذا العالم، يتحول إلى وطن بقيوده ورعبه، وإلى حميمية وطن عبر أصدقاء، وإلى نص للوجود رغم آلام هذا الوجود، لكأن «جوزيف كونراد ومارسيل بروست وجيمس جويس» يجلسون لقراءته ولكأن «شهرزاد» تسرد ما تبقى قبل أن يدركها صباح المنفى وفراق الأصدقاء.

أدب المنفى الليبي المكتوب نثرا، يرسم صورة لليبيا يتداخل فيها الجحيم وأطلال الفردوس، الأم المستباحة والعذراء في الآن نفسه، ولا صورة متخلية للمستقبل، فقط ذكريات عن ولادة وطفولة وحروب ومجاعات ومعتقلات، ركام أطلال ومراثٍ لوطن مفقود.