الملف الأمني في ليبيا.. شبح تطارده الحلول الأممية من اتفاق الصخيرات إلى «خريطة تيتيه»
الملف الأمني في ليبيا.. شبح تطارده الحلول الأممية من اتفاق الصخيرات إلى «خريطة تيتيه»
القاهرة – بوابة الوسط: محمد ناصف الأربعاء 12 نوفمبر 2025, 03:39 مساء
منذ توقيع اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015 الذي كان مفترضا أن يكون نقطة تحول نحو الاستقرار السياسي والأمني في ليبيا، تحول الملف الأمني نفسه إلى عقبة كأداء أمام أي تسوية سياسية، وظلت البلاد طوال عقد من الزمان تعاني انقساما في مؤسسات الدولة خصوصا الأمنية.
وعلى الرغم من مرور خمس سنوات على اتفاق وقف إطلاق النار في جنيف العام 2020، بقيت المعضلة الأمنية قائمة مع وجود حكومتين متنافستين، إذ بات الأمن أداة في الصراع السياسي بين الأطراف الليبية، وكثيرا ما وقعت الاشتباكات وتكررت في غرب ليبيا، وكانت العاصمة نفسها مسرحا لتوترات أمنية عدة.
الانفلات الأمني في الغرب والشرق
فقد شهدت طرابلس عشرات المواجهات المسلحة كان أخطرها في مايو الماضي بعد مقتل قائد من كان يسمى بـ«جهاز دعم الاستقرار» عبدالغني الككلي الشهير بـ«غنيوة»، وما تلاها من مواجهات بين «اللواء 444 قتال» وجهاز «الردع».
ولم تكن حالة الانفلات الأمني هذه حكرًا على العاصمة؛ إذ امتدت إلى مدن أخرى في الغرب الليبي مثل الزاوية ومصراتة وزواة والعجيلات، كما شملت مناطق سيطرة قوات «القيادة العامة»؛ إذ شهدت مدينة سبها هجومًا شنته كتيبة «101» التابعة لقوات «القيادة العامة» على مقر البحث الجنائي في مايو 2024، كما قتل 15 شخصًا في اشتباكات شهدتها بنغازي في أكتوبر 2023، إثر دخول وزير الدفاع في حكومة «الوفاق الوطني» السابقة العميد المهدي البرغثي المدينة.
«خريطة تيتيه» تطرح تساؤلات جديدة
ومع وصول المبعوثة الأممية هانا تيتيه إلى المشهد، طرحت خريطة طربق جديدة تركز على تهيئة البلاد للانتخابات، على أن تكون الإصلاحات الأمنية في صلب العملية السياسية، حتى أن تيتيه أكدت في إحاطتها أكتوبر الماضي أمام مجلس الأمن أن «استقرار البيئة الأمنية أمر بالغ الأهمية للاستقرار والتقدم السياسي».
لكن الحوار الأممي المهيكل المزمع عقده قريبا أثار بدوره جدلا و تساؤلات جديدة حول إمكانية نجاح الحلول السياسية في بيئة تفتقر إلى الحد الأدنى من الاستقرار الأمني، ويؤشر إلى حاجة المعضلة الأمنية في ليبيا إلى مقاربة مختلفة تعترف بخصوصية الأمن وتعقيداته.
وبين من يعيب على المبعوثة الأممية تهميشها للمسألة الأمنية، في مقابل من يرى أنها لا تستطيع معالجة كل المسارات في آن واحد، وثالث يتبنى نظرية «تقسيم الأدوار» بين الأمم المتحدة وأميركا، يتحدث المحلل السياسي وأستاذ القانون الدولي د. محمد الزبيدي لـ«بوابة الوسط»، عن سنوات من التهميش للمسار الأمني الذي كان ضمن مقررات اتفاق الصخيرات العام 2015، «ولم يشهد أي تطورات، وبقي خاضعًا للاجتهادات حتى يومنا هذا».
ويضيف: «على الرغم من أن أزمة ليبيا هي أزمة أمنية بالدرجة الأولى إلا أن هذا المسار لا يحظى بالاهتمام الكافي، فلا حلول جذرية ولا خطط عملية ولا رغبة حقيقية من طرف البعثة الأممية أو الدول الفاعلة والأطراف المحلية التي استفادت من حالة الفوضى وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني».
المسألة الأمنية في الحوار المهيكل
وتختص المرحلة الأولى من الخريطة الأممية بإعداد إطار انتخابي متماسك تقنيًا وقابل للتنفيذ، فيما تضطلع الثانية بتشكيل حكومة جديدة موحدة تدمج المؤسسات شرقًا وغربًا وتهيئ المناخ للانتخابات، أما المرحلة الثالثة فتتعلق بآلية للحوار تشمل مختلف الأطياف لمعالجة القضايا الخلافية، خصوصًا الأمنية والاقتصادية والانتخابية.
ويتوقع الباحث والمحلل السياسي محمد محفوظ في حديثه مع «بوابة الوسط»، أن تشمل محاور مسألة الأمن التي سيناقشها المتحاورون الـ120 أعضاء الحوار الأممي، ملف توحيد الجيش، وكذلك المجموعات المسلحة وانخراطها في الأطر الرسمية بـ«طريقة صحيحة وليس بصورة مشوهة كما يحدث الآن».
فضلًا عن دور الأجهزة الأمنية والسلطات العسكرية والأمنية في تأمين الانتخابات، باعتبار أن هدف الخريطة الأممية في الأساس هو إنجاز الانتخابات التشريعية والرئيسية خلال 18 شهرًا، لكن تبقى المعضلة الرئيسية في رأي محفوظ، هي التوصل إلى «توصيات حقيقة وآلية تنفيذ قابلة للتطبيق» خاصة في ظل تعقيدات تواجه المسار الأمني، غير أنه يشير في الوقت نفسه إلى عزم البعثة الاستمرار في مبادرتها للوصول إلى نتائج وتوصيات بآليات تنفيذ «محددة ومضبوطة».
من بوابة الأمن أم السياسة.. أين يبدأ الحل؟
ولا يرى رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة درنة يوسف الفارسي أن الخريطة الأممية تقصي مسارًا لحساب آخر، ويقول لـ«بوابة الوسط»: «المسارات متوازية ولا يمكن فصلها عن بعضها؛ الأمن والاقتصاد والمصالحة الوطنية والحكم وحقوق الإنسان»، لكنه يشير إلى حالة «تخبط أممية تتعلق بالمشاركين في الحوار المهيكل».
ويضيف: «لا يوجد وضوح في الرؤية فيما يتعلق بآلية اختيار لجنة الحوار وكذلك مدى جدية هذه اللجنة في حل المسائل بشكل سريع»، فضلًا عن غياب «الضمانات الواضحة» لتنفيذ مخرجات هذا الحوار.
في المقابل، يتفق الخبير العسكري العميد عادل عبدالكافي مع الزبيدي في اعتبار أن أزمة ليبيا «أمنية بامتياز»، معتبرًا أن الوصول إلى تفاهمات في هذا المسار من شأنه حل أغلب القضايا.
ويشرح عبدالكافي لـ«بوابة الوسط»: «الجانب السياسي له حصة في الأزمة الليبية أيضًا، فالانقسام الأمني الحاد ووجود قوة في الشرق تسعى للاستيلاء على الحكم بالسلاح خلق تمترسًا سياسيًا خلفها ممثلًا في مجلس النواب وبعض الأحزاب والتيارات في المنطقة الشرقية، ومن هنا تفسخت مؤسسات الدولة باستثناء مؤسسة النفط التي بقيت موحدة بفعل الضغط الأميركي المباشر وكذلك مصرف ليبيا المركزي؛ إذ يرغب الغرب في قطع الطريق أمام الروس الذين يحاولون تمرير الأموال في ظل العقوبات المفروضات عليهم».
– الدبيبة: الحكومة ماضية في إنهاء التشكيلات المسلحة خارج مؤسسات الدولة
– البعثة الأممية تشهر «كارت» العقوبات في وجه معرقلي «خريطة تيتيه»
– بعد مرور 5 سنوات.. لماذا فشلت «5+5» في ملف المرتزقة والقوات الأجنبية بليبيا؟
– توحيد الجيش الليبي.. الملف «الأصعب» الذي يتجاهله الجميع
ويرى أن الأمن بعيد عن مسارات الأمم المتحدة إلا من «بعض الأمور الجانبية» من بينها عدم انخراط التشكيلات المسلحة غربًا وشرقًا في أي مواجهة، فيما ينصب تركيز البعثة الأممية الأساسي على المسار السياسي وصولًا إلى الانتخابات عبر الضغط على الأجسام السياسية.
ويختلف الخبير في الشؤون الليبية في المعهد الملكي للخدمات المتحدة جلال حرشاوي مع الزبيدي وعبدالكافي، إذ يقول إن البعثة الأممية «لا تستطيع متابعة جميع المسارات بالقدر نفسه من التركيز»، كما يرى أن الأزمة الليبية في المقاوم الأول اقتصادية.
ويوضح حرشاوي لـ«بوابة الوسط»: «يعاني السكان من الإدارة الاقتصادية المختلة في البلاد أكثر بكثير مما يعانون من المشكلات الأمنية. لم تشهد ليبيا حربًا أو أي شكل من أشكال العنف واسع النطاق منذ أكثر من خمس سنوات. لكن المواطنين يعانون كل يوم بسبب اقتصاد هش ينزلق نحو مخاطر متزايدة. لذلك، إذا ركزت الأمم المتحدة أكثر على المسار الاقتصادي، فأعتقد أن ذلك خيار منطقي».
هل تركت البعثة الأممية الملف الأمني لواشنطن؟
وبينما تؤكد الولايات المتحدة علنًا دعمها للمبادرة الأممية لكنَّ مراقبين يرون أن هناك مقاربة أميركية تمضي جنبًا إلى جنب مع «خريطة تيتيه» وتركز على الجوانب الأمنية والاقتصادية.
وفي هذا السياق، يرى عبدالكافي أن ملف المسار الأمني تولته الولايات المتحدة مستشهدًا بالزيارات المتكررة لقيادات القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، موضحًا أن واشنطن تعمل على تكوين قوة عسكرية مشتركة من الغرب والشرق؛ إذ أدمجت بالفعل ممثلين عن الطرفين المتنازعين في مناورات «الأسد الأفريقي» في تونس، ومن المقرر أن يشاركا مجددًا في مناورات مشتركة بمدينة سرت خلال ربيع العام المقبل.
واحتضنت تونس في أبريل الماضي مناورات عسكرية بقيادة الولايات المتحدة بمشاركة ليبيا، فيما أعلنت «أفريكوم» إجراء مناورات «فلينتلوك 26» بليبيا الربيع المقبل.
وحسب عبدالكافي، فإن القوة العسكرية التي شرعت الولايات المتحدة في تشكيلها ترفع شعارات حماية الحدود ومنع الهجرة غير القانونية ومكافحة الإرهاب، بينما هدفها أساسًا هو «تقليم وتقليص دور مرتزقة الفيلق الروسي على الأراضي الليبية ومنع تدفق الأسلحة من وإلى إلى ليبيا».
المقاربة الأممية والأميركية.. أيهما ينجح؟
ومع وضع الأمن ضمن قضايا الحوار الأممي، لا يرى الزبيدي أنه «سيشهد تقدمًا ملموسًا وكل ما سيصدر بشأنه مجرد أمنيات مثل تشجيع عمل لجنة 5+5 والسعي لتوحيد المؤسسة العسكرية ونزع سلاح الميليشيات وتفعيل الأجهزة الشرطية والأمنية ومعاقبة المتسببين في الفوضى الخ».
وفي الاتجاه ذاته يذهب عبدالكافي متوقعًا ألا يحقق «الحوار المهيكل» أي اختراق يذكر في مسألة الترتيبات الأمنية، في ظل «الهيمنة الإقليمية على القرار السياسي والعسكري والأمني في ليبيا»، في المقابل، يرى أن فرص نجاح المشروع الأميركي أكبر إذا ما تغلب على معضلة روسيا التي «تفوقت بخطوات واسعة ومراحل كثيرة بعدما احتلت قواعد استراتيجية، وفتحت ممرات للسلاح في ليبيا، إلى جانب نشاطها الكثيف في نقل السلاح من وإلي ليبيا».
ومع ذلك، يؤكد الخبير العسكري أنه «لا يوجد» تنسيق بين الأمم المتحدة وواشنطن وأنه إن وجِد فعلى «سبيل الإحاطة»، وأن تحرك الأخيرة محكوم بمواجهة موسكو، «فبعد طرد قواتها من دول الساحل والصحراء تسعى للحفاظ على موضع قدم في ليبيا لما تمتلك من موقع استيراتيجي قبالة قواعد حلف شمال الأطلسي جنوب البحر المتوسط». ولا يرى أن ذلك قد يخلق تعارضًا، إذ «تعتمد الأمم المتحدة على أميركا في مشروعها في ليبيا، إذ تستعين بها للضغط على الأطراف الليبية لإخضاعهم».
حرشاوي: علاقة معقدة بين الأمم المتحدة وأميركا
غير أن حرشاوي يرصد علاقة معقدة تربط الأمم المتحدة بأميركا، فهو لا يرى أن الهيئة الدولية توافق على السياسة الأميركية الحالية في ليبيا لكنها مع ذلك لا تمتلك القدرة على معارضتها، ويقول: «تُولي الأمم المتحدة اهتمامًا بالغًا بالانتخابات، لكن واشنطن توقفت عن الحديث عن انتخابات في العام 2025. تُعارض الأمم المتحدة هذا التحول، لكنها لا تستطيع تغييره».
ويقدم مثالًا آخر على ذلك يتمثل في توحيد الميزانية، إذ «تريد الأمم المتحدة ترشيد إنفاق ليبيا في ضوء ما تُواجهه من أزمة اقتصادية ومالية خطيرة، بينما ترى الولايات المتحدة أنها لن تنجح في جعل الليبيين يتبنون قانون ميزانية موحدًا يُرشد الإنفاق، وكل ما تريده ضمان حصول الشركات الأميركية على مستحقاتها عند تعاملها مع ليبيا. هذا ليس هدف الأمم المتحدة، ولكن يجب على الأمم المتحدة أن تقبل ضمنيًا النهج الأميركي وتعمل ضمن هذه القيود».
بدوره، يرى الأكاديمي يوسف الفارسي أن الحل في ليبيا هو «دولي بامتياز»، متوقعًا أن يحقق الحوار الأممي «اختراقًا» في الجمود الراهن بالمسار الأمني، ويتفق معه المحلل السياسي محمد محفوظ الذي يرهن نجاح البعثة الأممية في الملف الأمني بالدعم الدولي، ويقول: «إذا ما لقي هذا المسار دعمًا وزخمًا دوليًا ربما يطبق، هذه هي الأداة الوحيدة التي تمتلكها البعثة. إذا ما تبنى مجلس الأمن الدولي خيارات البعثة فهذا تقدم ممتاز يمكن البناء».
ولا يفقد الأمل في تحقيق اختراق خلال أعمال الحوار المهيكل «فالمواقف تتغير بين الحين والآخر في ليبيا».. ليبقى التساؤل قائمًا: هل يحرك كل هذا الجدل المياه الراكدة في المشهد الليبي؟
