تتبع وتوثيق مظاهر الثراء غير المشروع في ليبيا.. (التحقيق الصامت)
تتبع وتوثيق مظاهر الثراء غير المشروع في ليبيا.. (التحقيق الصامت)

شهدت ليبيا في السنوات الأخيرة تصاعدا غير مسبوق في مظاهر الثراء المفاجئ سواء لدى مسؤولين أو متعاملين مع الدولة (أصحاب الاعتمادات، عقود عامة، تحويلات مالية، تهريب بشر وموارد)، دون أن يقابله إنتاج اقتصادي حقيقي، وتعد هذه الظاهرة دليلا قاطعا على الفساد الممنهج والنهب الواسع والجسيم للمال العام، ومؤشرا على ضعف الرقابة وتراجع الردع القانوني، وهو ما يشكل خطرا على السلم الأهلي نتيجة اتساع الفجوة الاجتماعية.
وفي ظل ضعف المنظومة التشريعية لمواجهة الفساد، بات ضروريا إيجاد آلية مؤسسية جديدة تُعنى حصريا بتوثيق وملاحقة هذه الظاهرة، ويسد بها بعض من الفراغ التشريعي والمؤسسي دون انتظار لإصلاح تشريعي ومؤسسي عميق، ومن الممكن أن تتمثل هذه الآلية في إنشاء وحدة خاصة في مكتب النائب العام، تتولى وضع سجل خاص يوثق جميع الحالات المشتبه بها للثراء المفاجئ؛ اعتمادا على التحريات المالية، والبلاغات والتقارير الإعلامية والصحفية الاستقصائية، وتقارير الأجهزة الرقابية والمالية والمصرفية، ومعلومات التعاون الدولي بشأن الأموال المهربة، على أن تضطلع هذه الوحدة بمهام المراقبة الصامتة والمستمرة لحركة الأموال والممتلكات، وتقوم بفتح ملفات تحقيق استباقية توثق الأدلة أثناء فترة شغل المنصب، وتدون كل ما يظهر من ثراء فاحش في المجتمع.
ونرى أنه من الممكن أن يوجه وجود مثل هذا السجل رسالة قوية بأن لا أحد فوق القانون، وأن يشكل رادعا للمسؤولين الحاليين والمستقبليين، وأن يمكن من جمع أدلة على الثراء غير المشروع، مما يتيح استرداد الأموال المنهوبة وضخها مجددا في التنمية، ويعزز شرعية المؤسسات، فعندما يرى المواطن أن هناك متابعة جدية لمظاهر الفساد، يتعزز الإيمان بالدولة، ويسهّل التواصل مع وحدات مماثلة في الدول الأخرى ضمن إطار مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وبالاطلاع على التجارب المقارنة نجد كثيرا من القضايا التي تؤكد على أهمية التحقيق الصامت، فملفات قضايا فساد رؤساء دول كالرئيس الفرنسي ساركوزي كانت تُبنى أثناء شغل المنصب، وتُفتح قضائيا بعد انتهاء الولاية، وملاحقة الثراء المفاجئ المرتبط بالمافيا وغسل الأموال في إيطاليا كان منهجها الصلب هو التتبع الصامت للثراء الفاحش عبر وحدات
متخصصة، كما كان تتبع الثراء المفاجئ العمود الفقري لعمل هيئة مكافحة الفساد (ICAC) في هونغ كونغ والتي اعتمدت عليه كمدخل للتحقيقات الجنائية.
ومن الممكن تصور تحقق ذلك من خلال قرار من النائب العام بإنشاء وحدة خاصة تتولى مهمة هذا السجل، يتبعه وضع بروتوكول تعاون مع ديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية، ومصرف ليبيا المركزي والمصارف التجارية، وإعداد قاعدة بيانات إلكترونية مؤمنة تربط بين الممتلكات والعقارات والحسابات المصرفية والتحويلات، على أن تتولى الوحدة التحقيق الصامت، وتلقي البلاغات وتقارير الصحافة الاستقصائية، بحيث تحتفظ بالملفات سرا إلى أن تنتهي الحصانات المانعة من مباشرة الدعاوى الجنائية، أو إلى أن يزول النفوذ الواقعي، مع إصدار تقرير سنوي عن ظاهرة الثراء المفاجئ (بنسخة سرية للنائب العام، وبنسخة علنية مختصرة لتعزيز الشفافية).
ونرى أخيرا أن وضع آلية لمراقبة مظاهر الثراء المفاجئ يتجاوز كونه إجراء جنائيا ضد أفراد، ليكون آلية استراتيجية في السياسة الجنائية لحماية المال العام، ومنع الفساد من التحول إلى ثقافة مهيمنة، وأداة لتعزيز ثقة المواطن في الدولة، وليس هناك إطار أنسب من النيابة العامة لتبني هذه السياسة، عبر سجل رسمي ووحدة متخصصة، تكتب كل حركة وتربط كل رقم وتحفظ كل دليل وتنتظر لحظة نزع الكرسي أو السقوط السياسي لتتجه الملفات إلى الفعل ويصبح الثراء الظاهر للجميع مجرد أثر تحت ضوء العدالة.
