خارج الصندوق

1-
إذ البكري الذكر سيد البيت، فإن الولد الوحيد الذكر، منذ الصغر، الرهان عليه: بيتنا في حي الصابري الشعبي بمدينة بنغازي، يشكل مع غيره جهة دكاكين حميد، حيث دكانة أبي ومخبزه، ما كانت مربوعة البيت/ المضيفة، بمثابة المخزن لأكياس دقيقه وما تحتاجه صناعة الخبز. الحي طرف المدينة الشرقي، يسكن أكواخه فقراء المدينة من كافة البلاد ويعج بالفنانين والعاطلين واللصوص، عقب الاستقلال عند أوائل عقد الستينيات، قبيل تصدير النفط ما اكتشف عندئذ.
ذات ليلة ممطرة مع رياح صرصر عاتية، اقتحم لصوص عتاة بيتنا ذا الباب الهش، ما يقفل من الداخل بقطعة حديد معقوف/ غانجو، الباب شباك حديدي، أدخل من خلاله حبل به شنقال على شكل حرفS، فتم افتكاك المعقف.
عند اقتحام اللصوص البيت، كان الفجر أطل وأمطار تهطل ورعد وبرق، زوجة أبي قامت هلعة بإيقاظ الطفل الوحيد في البيت، حتى تلك الفترة: نوظ يا حميدة انت راجل الحوش، أمي تجمدت من الخوف والبرد، عند تقدمي شبه مستيقظ، مندفعا نحو سقيفة البيت، صارخا: باتي، باتي أي أبي، اللصوص من هلع تدافعوا خارجين فارين، فتركوا ما سرقوا عند الباب: بغل جارنا اليهودي وعربة جار آخر، وكذا ما حملوا من دقيق.
في اليوم الثاني كنت بطل الحي من لا مثيل له، الكل يحتفي بي بمنحي الحلوة والكعك وغيرهما.
غب هاتيك الواقعة، أبي وجد ضالته في ذاكم البطل، لهذا أخذ في إيقاظي باكرا، عند ذهابه إلى دكانه، حيث أقوم بتسجيل أرقام في أوراق زبائنه، ما هي قيمة مديونية إفطار اليوم، وعند وقت المدرسة أغادر الدكان الذي أعود إليه عقب انتهاء اليوم المدرسي. منذ السابعة من عمري، كما اعتبرت رجل البيت بت رجل الدكان، نعم عشت رجولة مبكرة فقد كان الرهان عليّ، عشت خارج صندوق الطفولة كما معروفة حينها.
أبي أبدلني طفولة أخرى بتلقائية رجل ليبي أمي، مقابل أن أكون رجل الدكان، حصلت على حرية الحصول على شيء مما في الدكان من حلويات أو ألعاب، حتى إني اقتنيت كرة، صرت آخذها إلى المدرسة حيث كونت فريقا، حرصت على رئاسته قبل اللعب فيه. كنت المالك، من يعجبني أضمه إلى الفريق، وأطرد حتى من يعجبني، كي أؤكد الرأسمالي: في يدي الكرة والحلوة والملعب ما أحدده. لم ينقذني من دور المالك الشرس، إلا مجال يملأ فراغ طفل قاعد في الدكان ما يعج بالكبار، القراءة لا تحدث دون عزلة فتركيز ثم انغماس فشعور بالانفراد.
انصاع أبي للمركب الذي ركبت، عمران من يكبرني بسنوات، ابن قريبه وصاحبه وجاره، يتباهى بمقتنياته فمعارفه، مجلات أطفال منها المصرية وغيرها لبنانية: سندباد، سمير، ميكي، سوبرمان، الوطواط، الفارس المقنع…ما أغلبها مجلات أميركية ومنها الأوروبية الأصل، غدوت أتمكن من الاطلاع على عدد من مقتنيات عمران، مقابل بسكويت أكسفورد أو شوكولاتة برنس الشهيرين.
ولم يمر وقت حتى عرفت، من «عمران الصفراني» صديق الطفولة، كيف ومن أين أشتري بساط الريح المجلات التي عزلتني عن أترابي فمحيطي، فبت أغرد خارج السرب.
عندما أردت أن أكون أو لا أكون، جسرت الطريق بالمركز الثقافي الليبي، والمركز الثقافي المصري، من هناك استعرت طريقتي، استعرت الكتب، فكان في الصبا بالضرورة «كامل الكيلاني»، كاتب الأطفال من مصر.
ثم أن كتاب المطالعة وسرحان في الغيط، سهل طريقي إلى مجلة سندباد وسمير وميكي، حيث استلمني «كامل الكيلاني»، كان ذلك في ستينيات القرن العشرين حيث العالم غير العالم، ومدينة بنغازي تغص بما يحدث في ذلكم العالم، الذي مصر فيه عندئذ غير مصر من قبل وبعد.
ومن هذا أن أبي الأمي شغوف بما يحدث وقلق من أثره، كأنه يجلس في ذاك العالم على جناح الريح، انشغل ببناء السد العالي في مصر، لهذا جعلني أشتري المجلات والصحف، ليتفرج على الصور وأقرأ له ما كتب حولها، صور ناصر بطله وحليفه السوفييتي «خروتشوف» من ساهم في بناء السد. تلك مرحلة تحول نوعي في العالم وعند أبي وبالنسبة لي، لقد عرفت عالما آخر من خلال عين أبي والسد العالي، وكأنما لمصر سيرة أخرى منسية هي سيرة السد العالي، على الأقل بالنسبة لي.
الطفل ابن الأب الأمي، وقع في حب القراءة، نار الحب أججت فيه دهشة الطفولة، لذا عاش ولعا يتخطى الزمن. موسى صاحب محل الجزارة، المجانب لدكانة الأب وصديقه، ولع بقراءة الكتب، وعند ابنه سلامة وجد وجده، سيرة سيف بني يزن، فالتهمها معه، ومعه صار مجنون سير، عنترة بن شداد، سيرة بني هلال.
وفي البلاد أي وسط المدينة، عندما يبعثه أبوه لشراء بضاعة للدكان، عند الفندق/ سوق الخضار والفواكه وما شابه، يبيع عواجيز كتبا، تدعى الكتب الصفراء، لاصفرار ورقها ولمحتواها من خرافات وأساطير وسحر، اقتنى مثل تلك الكتب، ومن الكشك الذي عند الفندق، كما كان يشتري المجلات والصحف، أخذ في اقتناء كتب حديثة، ومن طرائف ما حدث، أن لفت نظره كتاب «هؤلاء علموني»!، فاسم كاتبه سلامة موسى، اشتراه وفي الظن، أن الكاتب ظل صديق طفولته: سلامة موسى.
