في معنى الرمز الفلسطيني!

في معنى الرمز الفلسطيني!

سالم الهنداوي

تحتل دولة الكيان الصهيوني كل كنوز فلسطين التاريخية، الأرض والآثار والمعابد، والحجر والشجر، فالكُل في حصار حتى البشر، فليس «الكيان الصهيوني» داخل حدود الدولة العبرية منذ العام 48 ولا منذ العام 67، وإنما داخل كُل جغرافية فلسطين التاريخية في الحلم الصهيوني بحدود دولة «إسرائيل الكُبرى»، المزعومة من النهر إلى البحر!

ظل كُل شيء فلسطيني ماثلا عبر العصور داخل فلسطين التاريخية على الرغم من مظاهر التهويد عبر الاستيطان، والتغيير الديمغرافي بالمصادرة، وهدم المعالم العربية والإسلامية التي طالت معظم المُدن والأحياء القديمة، كما حي «الشيخ جرّاح» الشهير، وأحياء «سلوان والبستان ووادي حلوة» في القدس الشرقية. كما طال التغيير الديمغرافي «وادي الجوز والطور والعيسوية»، وما جبل «أبوغنيم» ومرتفعاته إلا شاهداً على الأثر الكبير.

خرج الفلسطينيون من ديارهم عنوة أمام عالمٍ يرى بأمِّ عينه فداحة القتل والتعذيب والتهجير القسري منذ نكبة الاحتلال في العام 48 إلى نكبة الإبادة في العام 2025، وما بينهما من مجازر وحروب واعتقالات وتعذيب، لكن نجت القضية من التغييب، كونها قضية شعب تحت الاحتلال، فلم تخفَ جرائم العدو، على الرغم من محدودية وسائل الإعلام آنذاك، من نقل صورة مأساة الفلسطينيين إلى العالم بمغامرة صحفيين، نجح بعضهم في التسلّل إلى المخيمات والمعتقلات، ومنهم من وثّق بكاميرته الاعتداءات الوحشية على النساء والأطفال في أثناء تهجيرهم من بيوتهم وجرف مزارعهم.

لم يخرج الفلسطينيّون من أرضهم بلا رمزية حق العودة بصمود المقاومة ضد الاحتلال، وأناشيد العودة وأشعارها التي صدحت في ميادين العالم، وكان العَلَم الفلسطيني والكوفية الفلسطينية الرمزيْن الداليْن على حقيقة الوجود الفلسطيني وحق العودة والتحرير مهما طال الزمن.

في مواجهة هذا الاحتلال الهمجي، لم يعجز الفلسطيني من تحريك القضية هنا وهناك بكل الوسائل الممكنة، حتى إن فصيلاً قد اختار التوقيع على معاهدات سلام لم يُكتب لها النجاح في ظل تعنّت المتطرّفين الصهاينة الذين يعتبرون السلام مع العرب والفلسطينيين خيانة للمشروع الصهيوني في تحقيق الحُلم بقيام دولة إسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر، وهو الحُلم الذي عبّر عنه «النت» أخيراً بوجدانية دينية صهيونية خالصة في أثناء حرب الإبادة على غزّة، مّا يعني أن لا سلام قادم مع «إسرائيل»، ولن يكون مهما هدأت الحرب بالوساطات الدولية، وأمرت أميركا بذلك، فإسرائيل لا تعتبرها سوى «هدنة» لمرحلة تأهيل تستعيد بها القوّة للضربة التالية، وقد اكتفت في هذه الجولة بما حقّقته من دمار شامل في غزّة!

خلال عاميّ الحرب على القطاع، ونزيف الدم النافر الذي لطّخ جبين العواصم، واستثار شعوب الأرض قاطبة، كان الصمت العربي مستفزّاً وقاهراً على نفسية الفلسطينيين والشعوب العربية العاجزة عن وقف نزيف الدم ووقف حرب الإبادة. وخلال هذين العامين، كانت معظم العواصم العربية تحتفل بأعيادها الوطنية، بل وتقيم عواصمها حفلات الغناء والطرب وسط تصفيق وتهليل المائعين، في حين يصرخ أطفال غزّة وسط نيران الصهاينة!

لم نكن نريد أن يحارب العرب إسرائيل، لكن كان في الإمكان اتخاذ مواقف، وإن كانت خجولة، مثل الطموح بأن تسحب دول التطبيع سفراءها من «تل أبيب»، أو تعليق اتفاقياتها الاقتصادية، أو صياغة بيان عربي موحّد يصدر عن الجامعة العربية، لا ليدين ويشجب، وإنما ليضع نقطتين على حرف، بأن يلغي مقترح قمّة بيروت بحل الدولتين على حدود 67، واعتبار صفقات التسويات السابقة ملغاة، وهو الأمر الطبيعي المتوقّع بعد أن اختارت إسرائيل حرب «الإبادة» دون اعتبار لمعاهدة واتفاق. وإن لم يتحقّق هذا القرار، فيمكن أن يكون ورقة الضغط السياسية الرابحة في البيت الأبيض، وأروقة الأمم المتّحدة.

لكن ذلك لم يكن ولن يكون، غير أن ذلك لا يحرمنا حق التضامن مع شعبنا الفلسطيني، ونصرة قضيته العادلة، بأن نحفظ سماء العَلَم الفلسطيني من الوباء الإمبريالي، وأن نكرِّس إعلامنا لخدمة القضية من خلال دعم وإنتاج الوثائقيات التلفزيونية العالمية التي تدين الجرائم الإسرائيلية خلال العقود الثمانية الماضية، وكذلك العمل على تعديل مواثيق المواجهة عبر المنظمات الحقوقية الإقليمية والدولية، والترويج الثقافي بالرموز التاريخية الفلسطينية عبر النشر الموسوعي، والاحتفاء بثقافة المقاومة التي قاد إبداعها شعراء وروائيون لعقود.

كم تمنّيْت أن تكون فلسطين حاضرة في مناسباتنا الإقليمية والدولية كرمزية ثقافية وسياسية مقدّسة تاريخيا إلى يوم التحرير، كوننا نؤمن بأن فلسطين قضيتنا العربية المركزية، ولا ننكر وجودها التاريخي من بين بلداننا العربية، والحال كذلك مع جامعتنا العربية، إلّا إذا كُنّا نخشى عواقب مثل هذه المواقف الرمزية، ولا نريد أن تزعل أميركا وإسرائيل من إطلاق اسم «فلسطين» على مرفق سياسي أو ثقافي في عواصمنا العربية، وإن لم يكن ذلك مؤثِّرا كمثل ما يكون في العواصم الأوروبية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية، كمدريد وباريس وروما وأمستردام وفيينا وبروكسل، حين تطلق رمزية تسمية فلسطين على أهم شوارعها وميادينها كوسيلة أكيدة للتعبير عن ضمير الرأي العام العالمي، وتغيير القناعات والمفاهيم الزائفة في عالم تقوده الآلة الإعلامية الغربية، ضحية المال اليهودي واقتصاداته السياسية.