في زاوية الجنوب المحاصر من قطاع غزة، حيث تختلط رائحة التراب برائحة الخوف، يعلو حديث جديد عن “مدينة إنسانية” يُفترض أن تكون ملاذًا آمنًا للفارين من جحيم الحرب الإسرائيلية، لكن خلف هذا العنوان البراق، تختبئ تساؤلات موجعة وقلق عميق، هل ما يُبنى في رفح هو حقًا ملجأ للناجين، أم معسكر احتجاز جماعي بأبعاد سياسية وإنسانية مقلقة.
تطهير عرقي
وفي السياق ذاته، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود أولمرت، أن خطة وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، لإنشاء ما تُسمى بـ”المدينة الإنسانية” في جنوب قطاع غزة، بأنها “معسكر اعتقال للفلسطينيين”، وفقًا لما نقلته صحيفة “جيروزاليم بوست” اليوم الإثنين.
وحذر أولمرت، من أنها قد تشكل خطوة تمهيدية لعملية تطهير عرقي، موضحًا أن من يتم نقله إلى هذه المدينة سيخضع لتفتيش دقيق، ويُفرض عليه قيود صارمة على حرية التنقل، مؤكدًا أن تنفيذ الخطة على هذا النحو سيكون تصعيدًا إضافيًا في الانتهاكات الإسرائيلية.
وقال رئيس الوزراء الأسبق: “إذا تم ترحيل الفلسطينيين إلى هذه المدينة، فسنكون بصدد عملية تطهير عرقي، رغم أن ذلك لم يحدث بعد”، على حد قوله.
ورغم رفضه تصنيف الحملة العسكرية الحالية في غزة على أنها تطهير عرقي، أشار أولمرت إلى أن إجلاء المدنيين بشكل مؤقت لحمايتهم قد يكون مشروعًا بموجب القانون الدولي، لكن المزاعم الإسرائيلية بشأن نوايا إنسانية وراء مشروع المدينة، اعتبرها “غير موثوقة”.
جريمة حرب لا تغتفر
وانتقد أولمرت، سلوك الحكومة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، مستنكرًا مقتل مدنيين على يد مستوطنين، من بينهم فلسطيني يحمل الجنسية الأمريكية، واصفًا ذلك بأنه “جريمة حرب لا تُغتفر”، مشيرًا إلى أن الوزراء الذين يدعمون التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية وقطاع غزة بأنهم “أعداء من الداخل”.
من جانبه، أعلن وزير الدفاع كاتس، خطة لبناء “مدينة إنسانية” في منطقة رفح، تستوعب في المرحلة الأولى نحو 600 ألف فلسطيني، وقد تصل لاحقًا إلى استيعاب كافة سكان القطاع، البالغ عددهم أكثر من 2.1 مليون نسمة.
وكان الجيش الإسرائيلي قدّم، أمس الأحد، لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، تقديرًا زمنيًا يفيد بأن إنشاء المدينة سيستغرق نحو عام كامل، ما أثار جدلًا داخل الكابينت، خاصةً بعدما طالب نتنياهو بجدول زمني “أقصر وأكثر واقعية”.
تكلفة المدينة الإنسانية
ووفقًا للقناة 14 الإسرائيلية، حذر الجيش، من أن الإصرار على المضي في المشروع قد يعرقل مفاوضات تحرير الأسرى الجارية في الدوحة، كما قد يؤدي إلى تداعيات قانونية وإنسانية جسيمة، في حين أشارت التقديرات إلى أن تنفيذ المشروع سيكلف ما بين 10 إلى 15 مليار شيكل، تتحملها إسرائيل مبدئيًا بالكامل.
عاصفة من الخلافات
وتتعرض الخطة، لانتقادات واسعة داخل إسرائيل وخارجها، حيث اعتبرها مراقبون ومؤسسات حقوقية مشروع تهجير جماعي وعزل قسري لسكان غزة، بينما وصفتها منظمات إنسانية بأنها “بداية لحكم عسكري وفرض واقع الفصل القسري”.
وفي تطور لافت، كشفت “يديعوت أحرونوت”، خلاف حاد داخل المجلس الأمني المصغر (الكابينت) بين رئيس الأركان، إيال زامير، ووزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش حول الخطة، ما يعكس الانقسام الحاد داخل المؤسسة الإسرائيلية بشأن جدوى ومخاطر “المدينة الإنسانية”.
في ضوء هذه التصريحات والتحذيرات، تتصاعد المخاوف من أن تتحول “المدينة الإنسانية” المزعومة إلى نموذج احتجاز جماعي طويل الأمد، يخالف القانون الدولي، ويعمّق المأساة الإنسانية المستمرة في قطاع غزة.